الفاعل المخفي في السياسة السودانية
[ad_1]
العبيد أحمد مروح
كشف التصريح المنسوب للأمين العام لحزب الأمة القومي، لإحدى الصحف المحلية قبل يومين، والخاص بالكيفية التي تعمل بها الآلية الثلاثية، بعضاً من جوانب الغموض الذي ظل هو السمة الأبرز للفترة الإنتقالية الحالية؛ فقد نقلت عدة مواقع إلكترونية ما جاء على لسان الواثق البرير أن الآلية الثلاثية المكونة من الأمم المتحدة والإتحاد الأفريقي ومنظمة الإيغاد (تتدخل في قضايا ليست من ضمن التفويض الممنوح لها) معدداً جوانب من ذلك التدخل ومختتماً تصريحه بأن (مهمة الآلية تنحصر في التحضير للحوار بالتيسير والتسهيل إليه بين الفرقاء السودانيين بعيداً عن طرح أي أجندة أو حلول على القوى السياسية). وما لم يقله البرير بصريح العبارة وإن تضمنه تصريحه هو أن القوى السياسية السودانية المنخرطة في الفترة الإنتقالية لا تعرف على وجه الدقة إلى أين تريد الآلية الثلاثية أن تقود البلاد !!
وفي حقيقة الأمر فإن الغموض الذي يلف المشهد الحالي في السودان وكذلك مستقبله، لم يكن وليد عمل الآلية الثلاثية الحالي بل كان هو سيد الموقف منذ ديسمبر 2018 حين بدأ الحراك الشعبي ضد حكم الرئيس البشير، فقد أصر قادة ذلك الحراك من القوى المدنية المحلية وداعموها الإقليميين والدوليين على أن يكون برنامجهم هو “تسقط بس”، فلا حديث عن البديل ولا عن المستقبل ولا عن كيفية الوصول إلى الأهداف؛ ويبدو أن العبارة التي أعاد إنتاجها العقل الجمعي السوداني مؤخراً (سواقة الخلا) هي الوصف الأقرب لواقع ما بدأ منذ أكثر من ثلاثة أعوام، ففي الغالب أن الذي يقود سيارته بالخلاء يكتفي باتخاذ الوجهة العامة لمسيره، ولا يتقيد بسلوك طريق محدد، كون الطريق المحدد غير موجود أصلاً، وهذا ما حدث ويحدث في واقعنا السياسي اليوم !!
(2)
كانت القوى الدولية والإقليمية التي ناهضت حكم الإسلاميين في السودان، تعرف أن شركاءها المحليين، لن يستطيعوا إسقاط نظام الإنقاذ عن طريق الثورة الشعبية المحضة، ولن يكون بوسعهم منازلة التيار الإسلامي عن طريق صناديق الإقتراع، إذا ما سقط النظام وجرى تحول ديمقراطي حقيقي، ولو بذلوا لهم مال قارون، ولهذا كانت خطة الشهور الأخيرة من عمر النظام أن يتم العمل على مسارين رئيسيين في نفس الوقت، الأول هو تشويه صورة النظام وتضخيم أخطائه بوصمه بالفساد والمحاباة وسوء الإدارة ، والثاني هو مواصلة الحصار لخنق البلاد إقتصادياً وعزلها دبلوماسياً والتضييق على الناس في معاشهم، وكان القصد من كل ذلك هو إحداث أكبر قدر من الجفاء والفجوة الشعبية بين النظام والناس، حتى يسهل حشدهم لصالح الحراك الشعبي المعارض وحتى يصبح بالإمكان إقناع عناصر من داخل النظام، وبخاصة في القوى الصلبة، للتحرك ضده وقت الحاجة؛ وقد نجحت هذه الخطة بشقيها في نهاية المطاف وسقط النظام.
غير أن الذي لا يعرفه أحد، على وجه اليقين، هو لماذا تنحى كل طاقم اللجنة الأمنية لنظام الإنقاذ والتي أعلن رئيسها في صبيحة 11 أبريل 2019 “الإطاحة برأس النظام والتحفظ عليه في مكان آمن” إذ تساقطوا واحداً بعد الآخر ولم يبق منهم إلا واحد هو نائب رئيس مجلس السيادة الحالي، لكن التفسير الراجح هو أن القوى الدولية والإقليمية التي أشرفت من وراء الستار على الترتيبات الأخيرة قبل سقوط النظام، هي مَن حركت قطع الشطرنج على المسرح لينتهي المشهد إلى ما انتهى إليه في 17 أغسطس 2019 تاريخ توقيع ما عُرف بالوثيقة الدستورية.
وقد كان مخطط تلك القوى يقضي بأن تنخرط تلك التركيبة التي تم اختيارها، في استكمال ما سبق الشروع فيه، وهو القضاء المبرم على فرص الإسلاميين في العودة إلى السلطة عن طريق الإنتخابات، من خلال الإبقاء على زخم الشيطنة التي تمت لهم وإطالة أمد الفترة الإنتقالية، فكان أن تم النص في المادة (8) من الوثيقة الدستورية الفقرات (3 و15) على محاسبة منسوبي نظام الإنقاذ وعلى تفكيك ما أسمته الوثيقة “بنية التمكين لنظام الثلاثين من يونيو 1989″؛ وتأسيساً على هذه الفقرات صدر في نوفمبر 2019 قانون تفكيك نظام الإنقاذ وجرى تعديله لاحقاً في 2020 وهو القانون الذي بموجبه تم تقنين تجربة العزل السياسي وحل حزب المؤتمر الوطني وتجريم الانتماء إليه وملاحقة قيادته ومنسوبيه بتهم ملفقة.
(3)
بعد عامين من تجربة الشراكة بين المكونين المدني والعسكري في إدارة الفترة الإنتقالية ثبت أن كل الحديث الذي كنا نسمعه من طرفيها عن “التناغم والإنسجام” ما هو إلا ذر للرماد في العيون، وأن مشكلات جمة كانت تكتنف أداء الطرفين، زاد من حدتها فشلهما في تحقيق أي إنجاز ينعكس على حياة الناس مما كانا يعدانهم به بمجرد سقوط النظام، فانتهى الأمر إلى فض تلك الشراكة رسمياً في 25 أكتوبر 2021 وتلا رئيس مجلس السيادة القائد الأعلى للقوات المسلحة خطاباً على الناس وعدهم فيه بإلغاء فكرة المحاصصة الحزبية على مقاعد الجهاز التنفيذي خلال الفترة الانتقالية، وبإشراك كل القوى السياسية – عدا المؤتمر الوطني – في إعادة التأسيس لمرجعية دستورية جديدة للفترة الإنتقالية واستكمال هياكلها.
غير أن الأكثر أهمية ووضوحاً في خطاب البرهان يومها كان تعهده بتشكيل حكومة كفاءات وطنية مستقلة وإكمال مطلوبات العدالة والإنتقال بإقامة مفوضية صناعة الدستور ومفوضية الإنتخابات ومجلس القضاء العالي والمحكمة الدستورية ومجلس النيابة الأعلى وذلك قبل نهاية نوفمبر 2021، أي بعد نحو خمسة أسابيع من تاريخ خطابه ذاك أو أقل. وها نحن الآن نكاد نكمل الشهر السابع دون أن تكون لنا حكومة كفاءات وطنية ودون قيام أي من مؤسسات العدالة أو مفوضيات الإنتقال، وها هي القوى السياسية المختلفة سواء التي أيدت خطوة البرهان أو التي عارضتها تملأ الساحة جعجعة ولا نرى لها طحناً !!
(4)
التفسير المنطقي لهذا الوضع الذي يبدو فيه البلد في حالة شلل سياسي، وسلطته غير قادرة على الوفاء بما وعدت به الناس، هو أن الفاعل الحقيقي في الساحة السياسية السودانية طرف خفي وغير ظاهر للعيان، يدير الأمور بأداة تحكم يعرفها هو، ولا يقبل أن يتم اتخاذ قرار يمكن أن يؤثر على الكيفية التي يريد أن تمضي بها الفترة الإنتقالية دون رضاه؛ ويبدو أن هذا الطرف هو الذي قرر أن يضع كل البيض في سلة الآلية الثلاثية، وسمح لها بأن تكون هي من يتحكم في الحوار بين القوى الفاعلة في المشهد الإنتقالي ومن يضع أجندة الحوار بين السودانيين بدلاً من الاكتفاء بدور الميسر لذلك الحوار!!
وعلى طريقة المقولة السودانية الشهيرة (بضبحوه في الضحية وبقول باع، فما هو؟) لا أظنني بحاجة لأن أسمي هذا الطرف المتخفي الممسك بتلابيب القرار الوطني السوداني، فالأمر أوضح مِن أن يُخفى، ومن المؤكد أنه لو تُرك له الحبل على الغارب وبقيت مؤسساتنا الحاكمة والقوى السياسية المختلفة في حالة الشلل والتشظي الراهنة فسيأتي الوقت الذي لا يجد فيه الجميع وطناً يتصارعون على كراسي سلطته !!
كاتب صحفي وسفير سابق
المصدر