الصادق الرزيقي: يا ماجد ..ثقُل الحمل وتاهت القافلة ..!
في مفتتح يوليو المطير بمدينة نيالا 1985م والوقت ضحيً مشمس ، هبطت طائرة صغيرة ( سيسنا ) منزلقة علي المطار الترابي القديم ، كان هناك صف يتكون من بضع وأربعين شخصاً جاءوا لإستقبال الدكتور حسن الترابي والوفد الذي وصل معه ليشهد أول تكوين إقليمي للجبهة الإسلامية القومية عقب إعلان قيامها في مايو 1985م ، كان هناك شاب في بدايات تخرجه نزل بنشاط من الطائرة يحمل دفتراً بني اللون وقلماً أزرقاً وتدلت كاميرا ( ZENIT ) معلقة بسير اسود طويل من أعلي كتفه ، أطل بعينيه الواثقتين من خلف نظارة طبية عريضة بإطارها المسود ، كان مبتسماً وهو يصافح المستقبلين وهو يعرف جُلهم ،صافحوه هم بودٍ و لطفٍ لا يُباري بعضهم جايله في مراحل التعليم العام و العالي و بعضهم زامله في قاعات الدرس .
عرفتُ في ذلك اليوم ضيفنا الشاب ، وهو صحفي يعمل في صحيفة ( الراية ) الصادرة حديثاً وهي لسان حال الجبهة الاسلامية ، ونحن ثلة طلاب بالمرحلة الثانوية ، لدينا شغف لافح بعالم الصحافة و الثقافة و الإعلام ، مثّل لنا ذلك الشاب ملمحاً طازجاً نضِراً لذاك الأفق البعيد القريب ، كان ماجد يوسف في شرخ الصبا ، مثابراً ، هميماً ، ضحوكاً ، مفعماً بالحياة ، صافياً كما يقال كنداء عندليب ، ينظر إلي المستقبل كأنه يقبضه بين يديه ، يحدثنا عن السودان و قادمات أيامه و التوجهات السياسية التي يمثلها ، تترقرق في عينيه الكلمات ، غير أننا كان مشغولين بتلك النظرات الواثقة و دنيا الصحافة والقلم الذي يحركه بين إصبعيه و أحلامنا الصغيرة .
ومن غرائب الصدف أنه بعد فرسخ زمني قصير ، ضمنا ذات الجب … عندما سقطنا في براثن الصحافة ، كان ماجداً صحفياً حصيفاً حاذقاً ، شغلته القضايا الكبيرة عن توافه الأمور ، فالقضايا الصغيرات والذابلات في إهتمامات الصحافة لم تكن همه ولا من شواغله … تابعت و أنا في ” ألوان ” تقارير و مواده الصحفية عن القرن الأفريقي والسياسة الامريكية وانعكاسات السياسة الدولية على السودان ، لكن أميز ما خطه قلمه هو رحلة في عمق الصحراء علي تخوم الحدود السودانية التشادية عندما توغلت قوات الشيخ إبن عمر وقوات فرولينا وقوات ( CDR) المعارضة لنظام حسين حبري في نجامينا ، وكانت حكومة الصادق المهدي تنفي وجود هذه القوات في دارفور ، قام ماجد باكبر تحقيق استقصائي في تاريخ البلاد يومئذ وأظنه سيكون الأهم والأكبر حتى اليوم ، في جولة ميدانية طويلة من حدود الصحراء الكبرى شمال وادي هور نزولاً عند منطقة الوخايم وهبوطاً في اتجاه الجنوب حتى منطقة وادي صالح وأم دخن و بحيرة تيسي عند حدود السودان مع تشاد وأفريقيا الوسطي .
عندما إنتقل من الصحافة إلى السلك الدبلوماسي ، حمل معه ذات الصفات وزاد عليها من تجربته ، و يعد من القلائل في تاريخ العمل الدبلوماسي جمع صفات وسمات الشخصية الباهرة و ما ينبغي أن يكون عليه الدبلوماسي الفذ من ثقة بالنفس و سعة في الافق و تعدد المعارف والمواهب وحسن الخلق ورباطة الجأش و سلامة التصرف و الحرص علي تقدير المصلحة العامة و إكتشاف اللحظة المناسبة للفعل .
كل ما مر يوم أو زاد في الزمان ساعة ، تجمرت تجارب ماجد و ازدهت وتعددت ، ففي عمله بسفارات مختلفة ، توهج نجماً في محطات عمله ، إنشغل به و صادقه البلد المضيف ، و أضاف هو للمجتمع الدبلوماسي الذي معه بعدا آخر في عمق المعرفة و دقة التناول ، وجودة صناعة العلاقات و التفاهم مع الأخرين والرأي المفيد ، لم يكن دبلوماسياً تقليدياً ملولاً متحجراً ، بل كان فيضاً من حيوية و نشاط ، أعطى وظيفة الدبلوماسي والسفير معناها الحقيقي فأنتجت و زانت وفاضت ثمارها .
لن أضيف جديداً في ما عرفه الناس عن ماجد، وعن مزاياه و اخلاقه الرفيعة و حسن معشره و دماثة طبعه الرقيق الفريد ، فالرجل شهمٌ كريم نبيل ، لكأن الشهامة والنبل والكرم صفات لم يوجدها الخالق إلا لقلة من خلقه منهم ماجد ، رجل متماسك في المواقف الصعبة، وقوي الحجة واللسان والجنان كلما إختبرته الأيام ، سعى بالخير للجميع ، لم يتحيز ولم أو يتعصب جهة أو فئة أو تيار ، تطهرت سيرته من كل نقيصة ، ظل محموداً أينما حل في كل البلاد التي عمل بها و مع الجاليات التي عاشرها ، فعند مورده العذب أصدقاء كُثر منهم رؤساء دول وقادة ووزراء ودبلوماسيين وصحفيين ومن غمار الناس في كل أصقاع الدنيا .
رأيته ذات مرة في نيويورك ، في أروقة الأمم المتحدة التي عمل فيها في وقت سابق ببعثتنا هناك ، حافظ على علاقات صداقة منتجة مع البعثات السياسية المختلفة و موظفي الأمم المتحدة في الادارات المختلفة ، يعرف ويعرفه الجميع ، أفاد بلده وكل من طلب منه مساعدة وبعض الدبلوماسيين الافارقة ومندوبي بلاد العالم الثالث و كانوا يستشيرونه و يتصيدون اللحظات للتواصل معه و التشاور والتعاون ، كالنبع الكل يغترف منه و ينهل .
هو مستودع لأفكار و أراء وحكم و أمثال و نصائح وتلك قطاف بيئة الفاشر علي انحدر منها وتحدّر من تلالها الشم ، لم يبخل يوما لقاصد مشورة ورأي ، ولم يقبض يده عن صاحب حاجة ، ولم يغلق باب مكتبه او بيته في وجه طالبه ، هكذا عاش مُشرق الوجه ، مُنبسط الأسارير ، ظريف العبارة ، صارم في ساعة الجولة ، حاسم إن حانت الصولة ، فيه عزة من غير كِبر ، و سماحة في غير صِغر ، متواضع في غير ضعة ، حسن النية سليم الصدر ، مضى إلى ربه راضياً مرضياً ، وهو مجتهد في عمله ، متعب من اجل بلده ، لم يمت علي فراشه ، مات عاملاً مجتهداً ساعياً وفي موته إشارات لا تخطئها عين ولا يغفل عنها قلب ..
رحمه الله رحمة واسعة ، فالقلب يحزن على فراقه ، والأعين ملأى بالدموع ، لكن النفس واثقة أن الجزاء الأوفي من كريم عزيز غفور رحيم تنتظره وروحه تصعد إلى العلياء .. فأهنأ بجوارك و أي جوار ..؟
الصادق الرزيقي
مصدر الخبر