السودان ومصر: الحاجة لضبط البوصلة
(1)
أدّى رجل المخابرات المصري، عباس كامل، أخيراً زيارة للسودان، أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والإعلامية. واللواء عبّاس كامل ليس فقط رئيس جهاز المخابرات العامة في مصر، بل هو أيضاً الأقرب للرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي. وقد درج على القيام بمهام خاصة في مجال علاقات مصر الخارجية، بتكليف من الرئيس. ولعلاقات مصر مع السودان، مثلما درج إعلام البلدين أن يردّد دائماً، صفة الأزلية والاستدامة، وكأنه مكتوب لها ألّا تشهد تراجعاً أو اختلافاً أو انتكاساً من أيّ نوع، غير أنّ تلكما الصفتين لا تمثلان، في واقع الأمر، طبيعة تلك العلاقات. وصفة الأزلية، كما هو بديهي، تتصل بالماضي، فيما الاستدامة تمثل الحاضر والمستقبل معاً.
لسنا معنيين هنا بزيارة التاريخ، بل من المنطقي أن نقرأ العلاقات القائمة بين البلدين علــى حاضرها الماثل، كما لا يتصل الأمر بالآمال العريضة لمستقبل مأمول، غيـر أن علينا أن نلامس كل ماضي تلك العلاقات ومستقبلها، بعيون اليوم ونظر الحاضر.
(2)
لعلّ ارتباط البلدين لا يحتاج لتوثيق، فعبقرية نهر النيل تجمعهما في وادي النيل. ما يحدث في شمال الوادي يؤثر ويتأثر به جنوب الوادي. وكان أكثر انتقاد لتجربة مصر في الوحدة مع سورية هو الانقطاع الجغرافي بين البلدين، إذ تساءل منتقدون لها: أما كان المنطق التاريخي والجغرافي يفرض أن تنشأ الوحدة بين مصر والسودان، وليس بين مصر وسورية؟ لكن مصر تظل على مسافة افتراضية من السودان، فلا هي تبتعد، ولا هي تقترب، على الرغم من أنّ بين البلدين من الروابط ما يعزّز الصلات ولا يفصمها، وما يجمع ولا يفرّق. لكن لو أمعنا النظر بعمق في تركيبة السودان السكانية، نرى في أول نظرة أن ثمّة ثراءً في تنوّع السكان في الوادي الجنوبي لنهر النيل (السودان)، يتجلى في الألسن وفي السحنات وفي العقائد وفي الطوائف وفي الثقافات المحلية، بما لا يشبه واقع التركيبة السكانية في شمال الوادي (مصر).
تتباين طبائع الأنظمة في مصر والسودان، ولا تتماهى في أيّ حقبةٍ من تاريخهما المشترك. وإن كان عدم التماهي هو ما قد يلاحظ، لكنه يتمدّد إلى أكثر من ذلك
(3)
بعيداً عن أيّ عناصر أخرى، لن يكون الواقع السياسي في أيٍّ من البلدين متماهياً مع واقع النظام السياسي في البلد الآخر. يقع في مصر انقلاب في 23 يوليو/ تموز 1952، لتبدأ البلاد مسيرة حكم شمولي، لكن يظفـر السودان باتفاق لحكم ذاتي في 1953، يمهّد لنظام حكم سياسي تعدّدي تتنافس فيه أحزاب سياسية لإدارة البلاد وببرلمان حُر. ثم تتبادل الأنظمة السياسية في السودان أقدارها بين تعدَّدي فترة، ثم شمولي فترة أخرى، خلال الستين عاماً وأكثر التي انطوَتْ، منذ نيل البلاد استقلالها عام 1956. تتباين طبائع الأنظمة في البلدين، ولا تتماهى في أيّ حقبةٍ من تاريخهما المشترك. وإن كان عدم التماهي هو ما قد يلاحظ، لكنه يتمدّد إلى أكثر من ذلك، ليشبه، في أوقاتٍ ما، عدم توافق سياسي بينهما، وربما وصل إلى حـدّ الخصام. ترى مشاهد وقعتْ خلالها مخاصمة فـي خمسينيات القرن الماضي بين البلدين بشأن مثلث حلايب وشلاتين، ثم طرأتْ علاقات دافئة في بعض سنوات نظام جعفر نميري، ثم تتباين الرؤى بين البلدين عن امتدادات الحركة الإسلامية في المنطقة، خلال فترة الثلاثين عاماً لحكم عمر البشير، التي بلغتْ حدّاً خطيراً حين جرتْ محاولة فاشلة، كان وراءها نظام البشير، لاغتيال الرئيس المصري، حسني مبارك، أواسط تسعينيات القرن الماضي.
(4)
أكثر ما أربك النظام المصري الحالي وقوع انقلاب عسكري في أكتوبر/ تشرين الأول 2021 في السودان، على حكومة فترة انتقالية، جاءت إثر انتفاضة شعبية أسقطت نظام عمر البشير عام 2019. دخل السودان في نفقٍ اضطراباتٍ لم يبرأ منها، برغم وساطات وضغوط وأصابع من أشقاء قدموا لإيجاد حلول لأزمة بين جنرالات الانقلاب وقيادات الثورة المدنية، غير أن مصر ظلتْ على مسافة من تطوّرات الأمور في السودان، ولم يتبلور لها دورٌ مُباشر في مساعي البحث عن الاستقرار في ذلك البلد، فيما شهد المراقبون أدواراً للإمارات وقطر والسعودية، مضافاً إلى أدوار لدول أجنبية أخرى، بمسمّيات وساطات ثلاثية أو رباعية وغير ذلـك.
عزوف أغلب كبار المسؤولين العرب، من وزراء وسواهم، عن زيارة الخرطوم لإبداء الاهتمام السياسي والتعاضد المتوقع
(5)
بعد أن توصّل السودانيون، مدنيين وجنرالات، إلى اتفاقٍ إطاري يمهّد لفترة انتقالية مدنية، مدتها عامان، إذا بمصر تبعث رئيس مخابراتها إلى الخرطوم، وهي خطوة أثارت جدالاً لم يهدأ في الخرطوم، وتساؤلات عديدة، عن الغرض من الزيارة. رجل السيسي القوي يأتي إلى الخرطوم، وسفيرها الجديد لم يكمل شـهره الثالث في البلاد، فماذا يحمل في حقيبته؟ الزيارة متأخرة من مسؤول المخابرات المصرية الذي يمسك، كما يعلم السودانيون، ملف العلاقات مع السودان. يسأل بعضهم عما إن كان ثمة محاولة للحاق بالتأثير بتوافق السودانيين، مدنيين وعسكريين، قبل أن يقع ما قد لا تكون القاهرة جزءاً منه.
(6)
لن تكون زيارة المسؤول الأمني المصري الرفيع ذات أثرٍ على الترتيبات التي توافق عليها السودانيون في الاتفاق الإطاري، فلا وقت لأن تتعدى مدلولاتها البروتوكولية، على أن السودانيين، مسؤولين وسواهم، باتوا يتحسّسون من ابتعاث مصر سفراء لها إلى السودان. من عناصر قريبة من المخابرات، أو ذات خبرات أمنية. لا يخفي السودانيون ضيقهم من إبقـاء ملف العلاقات مع السودان بكامله في حقيبة مدير المخابرات. يتساءل مراقبون كثر في السودان عمّا يلاحَظ عن عدم عناية وزارة الخارجية المصرية بملف السودان. يعرف السودانيون اللواء عباس كامل، لكنّهم لا يتذكّرون من كان السفير المصري السابق في الخرطوم، أو حتى اسم السفير الجديد.
(7)
ملاحظة هامّة تثير شيئاً من الارتياب، وتتصل بتقييم بعض الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية الأزمة السودانية، وما يرصد عن عزوف أغلب كبار المسؤولين العرب، من وزراء وسواهم عن زيارة الخرطوم لإبداء الاهتمام السياسي والتعاضد المتوقع لمؤازرة بلدٍ شقيق لبلدانهم ولشعوبهم، يتهاوى في أزمته الراهنة. أليسَ لافتاً أن نرى سفراء عرباً، وأيضاً رؤساء أجهزة مخابراتٍ، يقومون بأدوار في التواصل السياسي مع كبار القيادات السودانية، وعلى مستوى وزاري وأعلى، فيما لم تشهد الخرطوم أيَّ زيارةٍ رسميةٍ لوزيرٍ عربي من بلدان أولئك السفراء، يكمل يومين في الخرطوم؟ هي ملاحظة شكلية، لكنها تعكس شيئاً من عدم الاهتمام.
جمال محمد ابراهيم
العربي الجديد
مصدر الخبر