السودان بين مهلكتين: عنف البادية وفصامية المثقف وفوضاه
[ad_1]
” عنف البادية ” هو التعبير الذي افترعه الراحل ” عبدالخالق محجوب ” سكرتير الحزب الشيوعي السوداني – رحمه الله وغفر له – قاله في العام 1965م واصفا به وقائع معركة حل الحزب الشيوعي من داخل الجمعية التأسيسية – البرلمان – عندما حشدت الأحزاب أنصارها في مظاهرات كبرى ، أمام مبنى البرلمان ، ودار الحزب نفسه ، تنديدا واستنكرا لأقوال أحد المتحدثين المنتسبين إليه في ندوة معهد المعلمين العالي – كلية التربية بجامعة الخرطوم الآن – إذ ، عمد بكلام ملتبس معتديا إلى بيت الرسول سيدنا محمد صل الله عليه وسلم ، وطعنا في آل بيته – مشيرا إلى حادثة الإفك – مما أثار حفيظة الجمهور ، وخرجوا في موكب متظاهرين لعدد من الأيام ، وضربوا حصارا أمام البرلمان مطالبين بحل الحزب الشيوعي وطرد ممثليه منه وحظرنشاطه ، وفعلا إستجاب البرلمان لتلك الجماهير في مطالبتها بحل الحزب الشيوعي وطرد نوابه وإغلاق دوره ، وحظر نشاطه إنتصارا للرسولصلاللهعليهوسلم .
واستخدم الدكتور ” حسن الجزولي ” التعبير نفسه شارة لكتابه : ” عنف البادية وقائع الأيام الأخيرة في حياة عبدالخالق محجوب ” ..
والكتاب ليس في سيرة عبدالخالق – حسب الدكتور محمد سعيد القدال – في تقديمه للكتاب ، وإنما هو تاريخ الأيام التي سبقت رحيله الأسطوري الذي ما فتئ صداه يتردد في مسمع الأيام ، بعد تنفيذ حكم الإعدام عليه شنقا في سجن كوبر ليلة الثامن والعشرين من يوليو عام 1971م . وذلك بعد أن نسب إليه ، وقيادات حزبه في التخطيط والتنفيذ لإنقلاب التاسع عشر من يوليو 1971م بقيادة الرائد هاشم العطا على حكومة الرئيس جعفر نميري والذي أطلق عليه الشيوعيون أنفسمهم اسم ” الحركة التصحيحية ” .
وهو الإنقلاب الذي نجح في السيطرة على مقاليد السلطة إلا أنه لم يستطيع الإستمرار لأكثر من ثلاثة أو أربع أيام فقط ، فسرعان ما ارتد تيار حركة الشارع السوداني والجيش معا في مقاومة شرسة للإنقلاب بعد أن إلتمع مذهبه الشيوعي من خلال شعارات المواكب التي خرجت صبيحة اليوم التالي للإنقلاب براياته الحمراء وشاراته الدالة لماركسيته والهتافات التي علت بقولها ” سايرين سايرين في طريق لينين ” و ” الخرطوم ليست مكه ” ..
حتى أن شاعرهم ” كمال الجزولي ” كتب في الحين ملحمته التسجيلية ” طبلان وإحدى وعشرون طلقة ” إهداء إلى الذين نصبوا متاريس الفرح الجرئ عصر يومنا التاسع عشر من يوليو سنة الواحد والسبعين !
وقال :
” سقط العقرب .. فوق العقرب
كان اليوم التاسع عشر ،
دقات الساعة أتت أربع مرات
الزمن الأول
الزمن الثاني
الزمن الثالث
الزمن الرابع
الزمن الوهج ، الزمن المازوت ،
الزمن الفائر بعد الظهر
الزمن النسر
مرحب
مرحب
ألف حبابك عبدالخالق الليلة أطفال السودان على طول الطرقات ،
ينتظرون قدومك بالحلوى ،
بالرايات الحمر وبالباقات ،
أطفال السودان المجروحو الحدقات ،
يا عبدالخالق .. ”
ذلك النص هو النموذج الأعلى لطقوس إحتفال الحزب الشيوعي بإنقلاب 19 يوليو ضد نميري ونظامه – وقد أشرنا بقولنا هذا في مقالنا السابق تحت عنوان : ” جعفر نميري انتقالاً من حالة المشي على أنغام وجماليات اليسار السوداني إلى ساحات الاشتباك بالأيدي” – وتلك الحركة الفاصلة بين حكومة مايو والحزب الشيوعي والذي كان بمثابة الخاتمة التراجيدية لتلك الحالة المخملية بينهما والذي أفضى إلى تنفيذ أحكام الإعدام لعدد من قيادات الصف الأول للحزب وفي مقدمتهم السكرتير العام ” عبدالخالق محجوب ” رحمه الله وغفر له .
ولن تنسى الذاكرة السودانية تدعايات تلك المحاولة الإنقلابية أو حركة تصحيح مسار الثورة هو في أدبيات الحزب الشيوعي ، إذ كيف ختموا تلك الأيام بمأساة إنسانية موغلة في الوحشية إذ قاموا بقتل وتصفية عشرات ضباط الجيش الأسرى العزل في بيت الضيافة الرئاسي إنتقاما ، بعد حالة اليأس التي أصابتهم نتيجة فشل إنقلابهم على حكومة الرئيس جعفر محمد نميري بعد ثلاثةأيام من السيطرة على مقاليد الأمور .
وعند إعدام عبدالخالق محجوب – جراء ذلك – كتب شاعرهم ” جيلي عبدالرحمن ” قائلا :
نصبو للشمس أعواد المشانق
يا حبيبي
تدلف الفرحة من سجن الشرانق
ورأيت القتلة
مثل فئران الخنادق وهدير المقصلة
مثل أفراح البيارق
كانت الخرطوم شعرا
يشعل الليل حرائق ،،،
وقال جيلي عبدالرحمن :
كنت تزهو في ذراع الثائر المهدي سيفا
يحتسي المحروم منه قطرات الشهيد صيفا
كان سيفا أحمر الحد صقيلا …
وفي دفاعات الأدباء والفنانين عن عبدالخالق محجوب وهو في معتقله قبل تنفيذ الإعدام كتب ( تجمع الكتاب والفنانين التقدميين _ أباداماك ) بيانا قالوا في متنه :
( إذ نجهر دفاعا عن الرفيق عبدالخالق فإننا إنما ندافع عن ظاهرة وضيئة ، منسجمة الأجزاء ، بالغة التكامل في حقلنا الثقافي .
لقد توصل الرفيق عبدالخالق إلى الماركسية في مسعى الشباب الحميم إلى ما ينسق العاطفة والعقل في إطار السقطة السياسية الباهظة التي آلت اليها القيادات الوطنية في بلادنا عام 1964م .
ولقد وقف على قدمين من الصمود والصحو ، ولمدة ربع قرن كامل ، على أرضية النضال العملي والفكري في بلادنا ، لقد تحمل المسغبة والأذى والشراسة والضغينة والتشهير والإرهاب ، وتوارثت اسمه أجهزة المخابرات جيلا عن جيل .
ونحن جيل من الإمتنان المفعم بالحب والتقدير لشخص وفكر وخبرات الرفيق عبدالخالق محجوب ) …
وحقا أن عبدالخالق محجوب رجل سوداني مثقف – نذهب مذهب الكاتب محمد سعيد القدال – أنجز في رحلة عمره القصيرة صروحا شامخة ، مؤثرا بعمق في مجرى الحركة السياسية في السودان وتاريخه الحديث ، بحضوره الآسر وقامته الشامخة ، ومزاجه الأم درماني ثم جاءت نهايته التراجيدية لتضفي على سيرته بعدا شاقا جديدا .
وإن ، وجد المرء في تعبيره ” عنف البادية ” إشارة باهرة الذكاء في وصف حالة حل الحزب الشيوعي السوداني .
واليوم بيننا وبين ذلك الحدث التاريخي المتمثل في تلك الوقائع المسببة له ، والتي نعتها الراحل عبدالخالق محجوب بتعبيره الخاص – عنف البادية البادية – أكثر من خمسة عقود ونيف من عمر الزمان ..
كما تجدر الإشارة إلى أن إنقلاب 25 مايو 1969م بقيادة جعفر محمد نميري على نظام حكم ديمقراطي هو نفسه ، تم تحت رعاية الحزب الشيوعي السوداني بقيادة عبدالخالق محجوب وقوى اليسار من القوميين العرب ، ذلك إنتقاما لإجراءات حل الحزب الشيوعي في العام 1965م ، ثم ما لبث أن أدار الحزب ظهر المجن على نميري بعد إحساسه أنه بدأ يخرج عن المسار الذي رسم له ، متفلاتا عن الطاعة ، فقرروا تصحيح مسار الثورة بإنقلاب الرائد هاشم العطا .
هذا الإستقصاء من جانبنا في سيرة الحزب الشيوعي وسكرتيره العام عبدالخالق محجوب ، ليس خبط عشواء ، وإنما هو إنتخاب قصدي باعتبار أن الشيوعيين – كانوا ولا يزالون – هم أكثر التنظيمات السياسية زعما بصفاء الفكرة والنقاء الإيديولوجي الذي يناهض الطغيان العسكري بحثا عن الدولة المدنية وحق الإنسان وحريته .
ويتعالى الزعم بأن الحزب الشيوعي السوداني أكثر التنظيمات السياسية سعة ورحابة بصفوة البلاد من طلائع المتعلمين والمثقفين المشتغلين بالإنتاج الذهني والإبداعي .
وبهذا الإنتخاب أردنا ، إجتراح طريقا نكشف به تلك الظاهرة التي ظلت لازمة لمسلك أغلب المثقفين والمتعلمين السودانيين ، يعانون من حالة الفصام والفوضى ، وبات من الضروري من أن تجري هذه الفئة المثقفة فحصا لضمائرها .
إذ أن المثقفين السودانيين يعانون من نقص مهلك وفتاك في مسألة تقدير الآخر واحترام حريته في الإختيار ، وليس ذلك فحسب ، بل يعملون على تغذية الخبث والحقد ، حتى المخيلة عندنا هي مخيلة تحديدية وقمعية .
تحكمت تلك الظاهرة في مزاجهم الجمعي ، وحبسوا ذكاءاتهم وعبقرياتهم ، في الحيز الأيديولوجي .
ترى لو عاش ” عبدالخالق محجوب ” بيننا اليوم بأي تعبير كان سيصف تمرد محمد حمدان دقلو ” حميدتي ” – قائد الدعم السريع – ضد القوات المسلحة السودانية واجتياحه للخرطوم صباح يوم السبت 15 ابريل 2023م بلقطاء من أعراب صحراء دولة النيجر ، ومالي ، وتشاد ونيجيريا . بأقسى درجات جلافة وعنجهية وفظاظة البدو ، التي لم يشهد التاريخ العربي مثيلها حتى في عصور جاهليتهم الأولى .
فما حدث في الخرطوم ونواحيها ، ثم في دارفور أخيرا ، لم تكن له سابقة في هذا البلد أو جواره منذ النازية والبلشفية ، اللهم إلا اجتياح برابرة الخمير الحمر كمبوديا في عام 1975 ، أو سقوط ليبيريا وسيراليون في يد عصابات الجهل والإجرام البربرية في مطلع تسعينيات القرن الماضي – كما ذهب الدكتور عبدالوهاب الأفندي – لقد نزل الجنجويد على البلاد كالجراد ، سيلاً عرماً من التوحّش الهمجي ، كنس كل مظاهر التحضر والتمدّن في المدينة :
النظام والقانون ، العمران ، الأخلاق ، الاقتصاد ، الاجتماع ، كل شيء يتعلق بالإنسانية .
نهبوا كل ما وصلت إليه أيديهم ، وخرّبوا واغتصبوا وعذّبوا وقتلوا المدنيين تقتيلاً .
وقد أجبر الملايين على النجاة بأنفسهم ، بعدما تحوّلت العاصمة إلى جحيم لسكانها .
والشاهد ، مهما كان من أمر تدعايات حل الحزب الشيوعي السوداني وقتذاك ، أنه تم بوسائل سلمية ومدنية ، فلا يمكن مضاهاتها بعنف الجنجويد والعربان بوادي صحراء غرب إفريقيا .
ثم نجد بعضا من المثقفين وبذات لغتهم الكلاسيكية في الكلام ، يكتبون المقالات والأشعار المادحة لقائد الجنجويد بوصفه رسول المدنية المأمول للسودان الجديد .
هي الفوضى التي تعمل سلبا ، وحالة التوهان المستمر الذي يعيشه السودان بسبب أمثال هؤلاء المثقفون وفصاميتهم .
والتي وصفها عبقري الرواية العربية ” الطيب صالح ” الأديب المثقف المغاير لأغلب المثقفين السودانيين . متفرد ، مائز في وطنيته ..
معربا في إحدى مقالاته النقدية قائلا :
” الفوضى هي أن كل شيء أصبح محتملا ” ..
و ” الطيب صالح ” كما وصفه صديقه الكاتب – الدكتور حسن أبشر الطيب – رجل تجلله الطيبة المتناهية ، والنزاهة الأخلاقية الرفيعة المتمثلة في تعففه وإبائه وسخائه وتسامحه وسعيه المتصل في طلب الآخرين . من يعرفه يجد فيه هذا النقاء اللامحدود وهذا الإخلاص الفطري ، وهذه البشاشة والبساطة غير المتكلفة في كل شيء : لغة وهيئة وحركة .
ونشأته القروية ، فهي دائما المرجعية الجوهرية لما ظل يمثله من قيم ، وما يحمله من عطاء ثابت وما يدعو له من أفكار وما يعبر عنه من مشاعر صادقة وخيرة .
ويقول ” الطيب صالح ” :
كنت أطوي ضلوعي على هذه القرية الصغيرة ، أراها بعين خيالي أينما التفت .
والمتلقي لأعماله بجميع الأجناس الكتابية ، يجد هذا الإنتماء الأصيل وهذا الوجد البين وهذا الإنحياز وبشغف وموضوعية إلى قضايا وطنه وشعبه .
يعبر تعبيرا صادقا ما بدواخله من أفراح و أحزان ومن آمال وطموحات ومن إحباطات .
يقول :
السودان فأنا أحمله بين جوانحي ، وحيثما ذهبت وحيثما أذهب . هذا هو الوجع الأول ، الوجع البدائي واللانهائي ، السودان بلد مليء بالثراء النفسي والروحي ، فيه طاقات ومواهب ، فيه نساء ورجال وإبداع ..
كان من الممكن أن يكون السودان أحسن مما هو الآن ..
مشكلة السودان هي مشكلة السلطة ، عندما كتبت ” بندر شاه ” كانت صورة السودان حاضرة في مخيلتي أكثر .
فارق العمر بين ” الطيب صالح ” و ” صلاح أحمد إبراهيم ” هو أربعة أعوام ، وهذا يعني أنهما من جيل واحد ..
وجمعت بينهما هذا الشغف بالسودان وتراث ومأثورات أهله .
ويقول : علاقتي بالسودان علاقة إنتماء داخلي عميق مع شيء من العاطفة ..
علاقة الكاتب ببلده علاقة تقوم على الحب المسرف . والضيق سببه الحب لأن الإنسان يحب المكان والأرض والذكريات .
وفي داخل نفس ” الطيب صالح ” بركة واسعة من الأحزان تثير فيه كوامن الشجن ..
ولأنه لا يدخل في الكتابة إلا بدافع تلك الأحزان ، وترغمه للكتابة بألم ممض ، مصدره حب أكيد للوطن ..
وأزعم انه لا وجود لمثقف مبدع سوداني يمكنه مجرد الشبه أو أن يكون مناظرا ” الطيب صالح ” في صدق إنتماءه للقيم المجتمعية والوجدانية لأهل السودان ، وظل منافحا عنها بكل قدراته الإبداعية في الكتابة والكلام ..
مساء الأربعاء 21 سبتمبر 1988م وفي صالة المغادرين في مطار الخرطوم بدأ ” الطيب صالح ” مقالته الأولى في سلسلة ” نحو أفق بعيد ” لمجلة ” المجلة ” اللندنية ، وقد خصص المقالات الخمسة المتتابعة مباشرة بعد الثلاث الأولى ، ليعبر بها جميعا عن أحاسيسه المعقدة نحو الوطن ،
وكتب ” الطيب صالح ” في صدر المقالة قائلا :
” الأربعاء 21 سبتمبر 1988م . مطار الخرطوم ، صالة المغادرين .
الساعة 50 , 4 مساء .
إنما هذان البيتان ، حتما ، لأبي تمام :
سود الوجوه كأنما نسجت لهم
أيدي السموم مدارعا من قار
لا يبرحون ومن رآهم خالهم
أبدا على سفر من الأسفار
وكأنما عنى بها هؤلاء القوم ، الذين يسمون مجازا بالسودانيين ، لأن زعماءهم عشية الإستقلال ، لم يستقروا على رأي ”
ويردف قائلا :
” وربما يكون من أسباب أن هذا البلد لا يستقر على حال ، أن أسمه لا يعني لأهله شيئا ؟ ”
وينهض ” الطيب ” بقولة وبنبرة الحزن والأسى كاشفا الذين تولوا قيادة العمل العام وسياسة السودان من المثقفين منذ خروج المستعمر ولازالوا :
” هؤلاء السادة النجباء أن النسيج الذي نسجوه أوهى من بيت العنكبوت ، سوف تراق دماء كثيرة . حينئذ سوف نسمع نشيدا جديدا ، ونرى وجوها جديدة على شاشات التلفاز . سوف تغلق أبواب وتفتح أبواب ، وتعيش أحلام وتموت أحلام . وسوف يكون السودان ” سودانا ” بحق وحقيق حينئذ ”
إنه ” الطيب صالح ” الرجل ” الصالح ” ،
” كفيض من فيوض النيل جاء .. غمر العرب لغة وشعوبا بمفرده ..
الروح السودانية ناسا ومساكن ”
ظل كمرجل يغلي في ديمومة تحولات السودان وصراعاته ..
يتعايش في نفسه النقيضان ، الحزن والسعادة ..
وأقسى أنواع الحزن ما اقترن بالرثاء ، لا سيما إذا كان موضوع هذا الحزن وهذا الرثاء كائنا عظيما كبلادنا ، أنهكته أخطاء أبنائه ! وهكذا ، وكما قال ” لورد بايرون ” فإن ” أعذب أغانينا هي تلك التي تحكي عن أعمق الأحزان ”
فكل مقال كتبه عن السودان ، قوس قزح من ألوان الجمال ، ونبوءة وكشف ..
أسمع إليه وهو يقول عن صفوة البلاد وسادته :
” كل واحد من هؤلاء الناس الأذكياء الأغبياء عنده ” مشروع شامل ” لإقامة مجتمع ” فاضل ” يدوم إلى الأبد . وما أدراه ما الأبد ؟
ويقتلون أنفسمهم ويقتل بعضهم بعضا لتطغي أحلام على أحلام ” ..
ويقول : الفوضى هي أن كل شيء أصبح محتملا .
أن تنتمي إلى هذا الوطن البعيد المنال ، ذلك أمر عسير .
أن تكون سمعت زغاريد النساء في الأعراس ، ورأيت إنعكاسات الضوء على وجه النيل وقت الشروق ووقت الغروب ، أن تتذكر مذاق تمر ” القنديل ” ولبن البقر الغريض ، ورغوته معقودة على ” الحلابات ” ، ذلك أمر عسير .
وهؤلاء الزعماء النجباء الأذكياء الأغبياء ، ألا يحبون الوطن كما تحبه أنت ؟
بلى .
إذن ، لماذا يحبونه وكأنهم يكرهونه ، ويسعون إلى إعماره وكأنهم مسخرون لخرابه ؟
ويكشف ” الطيب صالح ” ويرثي ويفضخ صفوة البلاد ورأس رمحها وما فعلوه بالبلد :
الحرب اشتعلت وخمدت وبدأت ووقفت فهي تدور ولا تدور فالقتلى هم القتلى ، والجيوش هم الجيوش ، والمطامح هي المطامح ، والمزاعم هي المزاعم . هي ليست حربا ولكنها ذكرى حرب أو إحتمال حرب ، شبت منذ أعوام ، وشبت منذ قرون وتشب الآن في مساحة طولها عشر دقائق وطولها الابد .
الزعماء السابقون والزعماء اللاحقون أضغاث أحلام ، ذكريات زعامات ..
و ” الطيب صالح ” له جمال مائز في الإستدراك ، وفي إستدراك آخاذ ينسرب إلى روح القارئ مؤنسا لطيفا واصفا واقع السودان :
احتمالات إمكانات ، ” لا صيرورة ” واحدة وجوه شتى في أزمنة غابرة هي اليوم وغدا شمس تشرق ولا تغيب ، بدر ليس له تمام ولا محاق ، نهر يجري وليس له منبع ولا مصب .
السراب في صحراء العتمور ماء حقيقية ، عبت منه أبل أبي العلاء المعري حتى ماتت من الري .
الزرع في حقول الجزيرة ينمو وأبدا لا يصل إلى درجة الحصاد .
الأمطار تهطل والأنهار تفيض ، ويعم الخير في هيئة مجاعة يموت فيها الناس من التخمة ، الطائرة لن تقوم وسوف تقوم ، وقت قامت بالفعل .
ما أروع هذه المدينة اللامدينة في هذا الوطن الذي هو كذكرى وطن أو كحلم وطن . وقد سألك الشاعر ، أنت بالذات ، دون خلق الله جميعا :
أبكت تلكم الحمامة أم غنت على فرع غصنها المياد ؟
يا سيدي فداك نفسي . لقد كنت كأنك لم تكن ، أما الآن وقد حيرني سؤالك زمانا فما وجدت له إجابة إلا الآن فقط ، في هذه اللحظة التي كأنها الأبد .
إن الحمامة قد بكت وغنت فما بكت ولا غنت لأن الغصن الذي حطت عليه في واد هو احتمال واد ، في وطن هو حلم لوطن .
الشعوب أمرها عجيب ، وهذا الشعب بالذات من أعجب الشعوب .
هنا ملتقى الحضارتين العربية والإفريقية ، كما يقولون هذا هو قلب إفريقيا ، ولكنه مثل قلب فيل مخدر .
متى يصحو هذا الفيل وينهض ؟
متى ينبض القلب ويضخ الدم بقوة كما حدث في العصور الخوالي ؟
وصدق ” الطيب صالح ” عندما قال ” الفوضى هي أن كل شيء أصبح محتملا ”
فمشهديات واقعنا وأوضاع عيشنا المفضي إلى الكارثة تأكد على نصاعة حدسه ، الفوضى دخلت في البلاد منذ زمن بعيد
وبرأ ” الطيب صالح ” ساحته كمثقف أخلص لجوهر وظيفة المثقف في بلده :
” قدري أن أكون مواطنا لا أحمل ولاء للحكم القائم ولا للذين ينازعونه الأمر ، ويطلبون أن يحلوا محله ، ولائي للوطن في صيرورته الأبدية . وما أصعب ذلك من ولاء ” .
من هنا تأتي عظمة ” الطيب صالح ” فهو مثقف بلا أي إعوجاج أو إختلال في أفكاره ، بذل نفسه للسودان وأهله من باب فرض العين الذاتي الواجب – كما أورد ذلك محمد عثمان الجعلي في مقالته : رواس مراكب القدرة ” ضو البيت ” وداعا أيها الزين – مهامه الوطنية لم تندرج – كما عند غيره – ضمن منظومة المندوبات والكفائيات بل من بل فرضت نفسها وقد جاءت تلقائية خالصة متحررة من ربقة الإلتزامات السياسية وإسار الإنتماءات الأيديولوجية وتعقيدات الأرتباطات القبائلية الجهوية كما لم تحركها الطموحات الذاتية – والحديث لا يزال لمحمد عثمان الجعلي – جاءت تلبيته لنداء الوطن من باب قناعة داخلية راسخة بأولوية المسؤولية الوطنية ، وهذا باب من البذل وجهاد النفس أسقطه المثقفون من أجندتهم مع رحيل المستعمر وهم يتهافتون ، وما فتئوا ، على خيرات بلادهم ومقدراتها حتى أتلفوها إتلاف وارث سفيه أحمق .
أترى ماذا كان سيقول الطيب صالح لو شهد مأساة السودان وهو يتلف إتلافا ماحقا بأيدي صفوتنا وبتحالف مكتوب مع الجنجويد عربان التيه والضلال .
ليس ثمة أبشع من المثقف حين يفقد شخصيته ويغدو مجرد وسيلة يتصرف فيها السياسي بما يبرر غيه ، ليشد من أزره بحثا عن السلطة .
إن تحالف أحزاب قوى الحرية والتغيير ” قحت ” مع قوات ملشيات الجنجويد – الدعم السريع – ضد القوات المسلحة لهو إكثر التحالفات إصطباغا بالدم والعنف في تاريخ السودان .
ما نراه من تواطؤ بين مثقفي الأحزاب وأمراء عربان البوادي ليس إلا الوجه الآخر لفصامية المثقف السوداني الذي لا ينسجم مع رؤاه المعلنة ، هارب على الدوام من أفكاره المكتوبة وما أنتجه ذكاءه المتقد من أقوال في حقوق الإنسان والحريةوالسلام والعدالة .
نحن في مسألة الحكم والسياسة – حسب قول الشاعر محمد المهدي المجذوب – بين نارين :
” جهل الطائفية ، وعصبة الهاربين من ذكائهم .
وبين الإثنين تحالف غير مكتوب ”
تاريخ أبكار المثقفين والطبقة المتعلمة الذين شكلوا المرحلة الجنينية للحركة السياسية في السودان ، باتجاهاته المتعددة ، يضعنا الآن في بحر من الذهول ، والأسئلة التي تكشف بوعي ، مكامن علتنا الكبرى .
وتلك المأساة التاريخية ، هي ما جعلت الشاعر ” محمد المهدي المجذوب ” أن يصرخ مرة أخرى قائلا :
” أنا أزعم أن سبب الفوضى في السودان هو جهل الناس بالتاريخ ” ..
وما من ناقد ثقافي حصيف اجترح مسلكا مغايرا للمألوف والسائد ، في قراءته لتاريخ الحركة الوطنية السودانية منذ عهدإحتلال الإنجليز ، إلا ووجد في كتابهم فجوات ، وجنوح وتزييف ، ورسم صورا وردية لنضال وطني نظيف ، هدفه الرئيس تحقيق الرفاهية للشعب .
وذلك ما انتبه إليه الناقد ” عرفات محمد عبدالله ” في قوله :
إن الظروف لم تكن تسمح بفحص علمي محايد لتاريخنا الفكري والسياسي . فإن تأريخ السودان الحديث قد كتب في حقبة سادها إرهاب كثير .
وأصحاب القوة والثروة والسطوة هم الذين كانوا يملون بطريقة أو أخرى صورة تاريخنا على الذين تصدوا لكتابته . وكتب ” عرفات محمد عبدالله ” في مجلة الفجر 1935 قائلا :
” ومن يدري لعله يأتي يوم ليس ببعيد يستطيع فيه سوداني منصف أن يكتب عن محمد احمد المهدي بن عبدالله وعن خليفته وأعوانه ، وحسناتهم وسيئاتهم دون أن تقوم عليه قائمة الأنصار ولا الخصوم ، أما اليوم فلم يؤن الأوان ” .
وعلى أساس ذلك ، يمكن القول ، بما يفيد أن الصراع النخبوي عند الصفوة المتعلمة ، باسم الحركة الوطنية أو المقاومة ، أن حظ الوطن كان فيه ضئيلا جدا ، وذلك ما أثبتته تجربة الاستقلال عبر تقلبات نظام الحكم فيها ، أن هموم الوطن والمواطن لم تكن على رأس أولويات أي من الذين حكمونا .
” إن صفوتنا ضيوف ثقلاء على الواقع ” ..
والقول قاله مثقف خارج قولبة أغلب المثقفين السودانيين ، هو الدكتور عبدالله علي إبراهيم الناقد الثقافي السوداني الأكثر حضورا في ذروة الفكر المفضي إلى ثورة الإبداع ، صاحب مشروع فكري حداثي ، يتأبى على التسليم الخانع ، والاتباع القانع أو التقليد العاجز ، في مشروعه الأكاديمي الدارس للثقافة السودانية ، أو في منجزه الإبداعي المسرحي و دراساته النقدية ، يزرع في الناس روح التمرد والمغامرة والتطلع إلى المستقبل ، هو ضد إجماع الإذعان ، وكل شيئ عنده في موضع المساءلة ، تجده محاورا نفسه ، بذات القدر الذي يحاور به غيره ، لن تجد في ما يكتب ، إلا الأسئلة المعرفية المفتوحة ، والإجابات التي لا تعرف حدود الإنغلاق .
الدكتور عبدالله علي إبراهيم ، السلطة عنده هي سلطة الوعي ، وهو الثقافي الثوري المبدع غير أحادي البعد ، ولا المحدود ، فالثورية عنده ، أعمق وأوسع وأشمل من المعنى الإيديولوجي .
ففي إبداعه يفرض علينا تفكيك الأشياء ، والنظر إلي حقائق الواقع الموضوعي ، دون الاتكاء علي منهج المكابرة القليظة وفق مقتضى الكسب الآني .
بمقولته : ” صفوتنا ضيوف ثقلاء على الواقع ” يؤكد فرضيتنا الكلية لهذا المقال .
وضح لدينا أن أطوار رواد الطبقة المتعلمة والمثقفين في السودان ، وبالمعيار الثقافي ، أحدثوا فجوة من العسير ردمها بين الثقافة والسلوك ، إذ يجب التطابق بين النظرية والعمل .
وما فقدان التطابق إلا الدليل على انشطار المثقف ، وتعرض شخصيته للفصام .
فصورة المثقف الذي يصفق الآن لقائد الجنجويد وتمرده على القوات المسلحة السودانية ، بل ويعتبره رسولا للديمقراطية والمدنية ، ما هو إلا المثال الأقبح لحالة الفصامية والفوضى .
وهكذا نجد السودان اليوم بين مهلكتين في السقوط : عنف البادية وفصامية المثقف وفوضاه .
وكلمة أخيرة :
عندما سقطت الدولة الأموية ، سأل ” أبو جعفر المنصور ” يوما أحد حكمائها : ما الذي أسقطكم ؟
فقال حكيمها باكيا : ” أمور صغار سلمناها لكبار ، وأمور كبار سلمناها لصغار ، فضعنا بين إفراط وتفريط ” ..
بل وزاد عليها متحسرا فقال : ” قربنا العدو طمعا في كسب وده ، وبعدنا الصديق ضامنين ولاءه ، فنالنا غدر الأول وخسرنا إنتماء الثاني ” .
هي فوضى الأمس ، وفوضى اليوم ، وغدا الكرثة أفدح إن لم نحسن العمل .
الدكتور فضل الله أحمد عبدالله
مصدر الخبر