الحياة ممكنة في استاد الهلال
(1)
كنت اظن ان عودة الحياة الطبيعية وشغب الناس بالهلال والمريخ والكرة السودانية شيء قد انتهى، او امر صعب او قد يكون مستحيلاً في ظل الظروف التى يمر بها السودان.
افتقدت الحياة السودانية للكثير من ملامحها بسبب (الطمس) الذي كان في الثلاثين سنة التى كان فيها نظام الانقاذ حاكماً، ثم جاء الطمس الاكبر بعد انقلاب 25 اكتوبر اذ اصبحت الحياة نفسها مستحيلة في ظل الغلاء والتعقيدات التى اصبحت في جميع مناحي الحياة.
نحن انفسنا اصبح صعباً علينا الكتابة عن روائع محمد وردي وإبداعات عثمان حسين – الرصاص والغاز المسيل للدموع احدث تغييراً حتى في طعم اللبن (المقنن). انتهى زمن الانس والإلفة .. والسفر الى البلد في نهاية الاسبوع والعودة للعاصمة مخضب البنان برائحة التراب وسلام الخالات والأهل.
مسحنا من قاموسنا (دافوري) العصر و(شاي المغرب) وإرسال مصاريف للعمات – لم نعد نستطيع حتى التواصل المباشر في الافراح والأتراح – اصبحنا نكتفى برسالة مقتضبة.
اصبحنا نضحك بخجل مراعاة لمن فقدناهم في الحراك الثوري ولحالة البلاد – الفرحة اصبحت تمارس في السر ان وجدت.
علاقتي بالعمة والجلابية اصبحت (متوترة) ووقوفي في طلمبات الوقود لتزويد السيارة اصبح يحتاج منّا الى شجاعة عنترة بن شداد وبسالة خالد بن الوليد – هذا الفعل اضحى غير متاح للتنفيذ إلّا اول كل شهر.
ان تخرج مع الاسرة في مشوار ترفيهي هذا يعني ان هناك (محاولة تخريبية) ناجحة للمرتب .. اما السفر فقد اصبح (محاولة انتحارية) مكتملة الاركان.
همنا كله اصبح يقتصر في عودة التيار الكهربائي ونحن نتلصص بين الفينة والأخرى لرؤية عداد الكهرباء ليطمئن قلبنا .. الذي كان يصاب بالهلع والرعب والخوف عندما يقرأ العداد.
(2)
مباريات نادي الهلال الاعدادية الاخيرة التى خاضها الهلال امام فريق الاشانتي مرتين وامام فريق سيمبا التنزاني اعادت الى نفسي الامل الذي كاد ان يكون مفقوداً.
رجعت لنا من جديد (حمى) المباريات والوقوف على المدرجات لأن الذي يقف امامك يسد الرؤية عنك في كل هجمة .. في استادات الكرة دائماً الشخص الذي يقف امامك (رأسه كبير) وتوتره شديد وأعصابه (بايظة) كأنه جاء للمباراة من اجل ان يحجب عنك الرؤية.
حافلة المباراة وصف الكرة وشاي التسخينة ونقاشات ما بين الشوطين كل هذه الاشياء افتقدناها في الفترة الاخيرة.
مباريات كرة القدم حتى التى يكون طرفاً فيها الهلال والمريخ اصبحت مثل بيوت العزاء بعد رفع الفراش .. لا شيء سوى (صبّارة) مياه عادة لا تكون باردة .. و(ترمسة) شاي في الغالب يكون شايها (بارد).
نحن رجعنا نتحدث عن الكرة من جديد – لامين جاجو محترف جديد في الهلال يمكنه ان يعيد اشعال (العمة) لملاعبنا .. المحترف ليليبو انطلاقاته اسرع طريقة للهضم.
لقد اصبحنا نتحدث عن كرة القدم – وهذا امر مهم يطرد الملل ويقضي على الضجر.
تلفوناتنا اضحت تستقبل مكالمات للحديث عن المباراة.
رجعت اعلام الهلال وشعاراته ترفع من جديد في المركبات العامة والخاصة وفوق اسقف المنازل.
للكرة متعة لا توجد إلّا في التفاصيل التى تسبق المباراة وتأتي كذلك بعدها.
نمارس كل سودانيتنا ووحدتنا وسلامنا في مباريات كرة القدم.
(3)
حققت مباراة الهلال الاولى امام الاشانتي الغاني دخلاً بلغ (17) مليون جنيه – (17) مليار بالقديم .. وحققت المباراة الثانية امام الاشانتي نفسه دخلاً بلغ (9) مليارات جنيه .. اما مباراة الهلال الاخيرة امام فريق سيمبا التنزاني فقد حققت (24) ملياراً ليبلغ دخل مباريات الهلال الثلاث التى لعبت في ظرف اسبوع (50) مليار جنيه.
هذه المباريات عائدها المادي ليس هو فقط في عائد المدرجات والذي يحسب من شباك التذاكر .. وإنما دخلها الاكبر في الحراك الذي احدثته والأسواق التى خلقتها .. فقد استفاد من هذه المباريات اصحاب المركبات العامة وبائعات الشاي والعارضون لسلعهم امام استاد الهلال – وانتفع الهلال نفسه من عائد بيع شعاراته ومن تلفزة مباراته الاخيرة امام فريق سيمبا لقناة عزام التنزاني – اما العائد الاجتماعي والنفسي فهو امر لا يمكن حصره في هذه المساحة.
عائد الدخل غير المباشر اكبر من عائد الدخل المباشر في مثل هذه المباريات.
لقد سلبنا او استلبت الدوريات الاوروبية الاجيال الحديثة التى اصبحت تنظر الى الدوري السوداني كأنه عقوبة مفروضة علينا في ظل (الخرابات) التى تقام عليها المباريات والنقل التلفزيوني المخجل والتحليل الفطير – أي شيء في الكرة السودانية كان طارداً بما في ذلك الاعلام الرياضي الذي نعتبر انفسنا جزءاً منه.
الطفرة التى حدثت في الهلال على المستوى الفني بفضل مجلس السوباط المعين والمنتخب والنهضة التى حدثت في استاد الهلال بفضل تأهيل الملعب من قبل رئيس الهلال السابق اشرف الكاردينال انعكست نتائجها في العودة الجماهيرية الكبيرة للجوهرة الزرقاء.
تدافع وزحام كبير في مباريات الهلال رغم الحاجة الى ميزانية كبيرة لمشاهدة المباراة من الملعب ورغم الصعاب المتمثلة في اغلاق الشوارع بالمتاريس وبمياه الامطار التى جعلت استاد الهلال وسط بركة من المياه.
اقول دائماً ان الاموال التى تدفع من اجل المتعة التى تحدثها كرة القدم لا تساوي شيئاً – نحن في حاجة الى نمارس شيئاً من الفرح – اذ لم نعد نفرح وننطلق إلّا في ملاعب كرة القدم.
السوداني لا يتحرر من القيود والضغوط ومن جدتيه إلّا في مدرجات ملاعب كرة القدم.
(4)
بغم |
مهما كان التغول من قبل السلطة على الهلال والمريخ والتمرغ في اسميهما – يظل الهلال والمريخ قلاعاً (شعبية) خالدة وكتلاً (جماهيرية) عظيمة صعبة الاختراق
.. حاولت السلطات في العهد البائد وفي العهد الحالي استغلال الهلال والمريخ وسرقة شعبيتهما – لكن بسبب الطبيعة (الجماهيرية) للقمة السودان كان الهلال والمريخ عصيين على التسييس والشعارات الزائفة.
وكل الطرق تؤدي الى (المدنية).
محمد عبد الماجد
صحيفة الانتباهة
مصدر الخبر