الحكم المدني: طريق السودان للتصدي لأزمة اقتصاده
فاروق كمبريسي*
مقدمة مُوجزة
تعلمون جميعاً فقد نفّذ قائد الجيش انقلاباً عسكرياً في 25 أكتوبر 2021 بحجة حماية الاستقرار في البلاد، حيث أُلقى الجيش والقوات الأمنية القبض على د. عبدالله حمدوك، رئيس الوزراء الانتقالي، وعدد من الوزراء والمسؤولين في حكومته.
وفي هذا الشأن، فقد تمت إدانة الانقلاب على نطاق واسع، وفي الحال أنهت المؤسسات المالية الدولية والمانحون الدوليون تعاونهم مع الانقلابيين، حيث كانت هنالك محاولات حثيثة لإعادة الحكم المدني من خلال مبادرات دبلوماسية مختلفة، ولكن لا تزال الرؤية غير واضحة بشأن خروج العسكر من المشهد السياسي، وإفساح الطريق لاستعادة الانتقال المدني الديمقراطي.
كما تعلمون أيضاً فقد جاء الانقلاب المشؤوم بعد عامين ونصف فقط من اسقاط الرئيس البشير بعد نجاح ثورة ديسمبر 2018 المجيدة التي مهدت الطريق للانتقال السياسي وإجراء إصلاحات مهمة لاستعادة استقرار وتعافي الاقتصاد السوداني. وبالرغم من أن الحكومة الانتقالية حققت تقدماً جيّداً في مسار الإصلاح الاقتصادي، فإن حل هذه الحكومة في أعقاب الانقلاب أعاق هذا المسار. وبعد مرور عام على الانقلاب، أدى سوء الإدارة من قبل الانقلابيين إلى إيقاف التقدم التي تم إحرازه بين عامي 2019-2021 حيث نرى اليوم، أزمة غير مسبوقة في تكلفة المعيشة بسبب الارتفاع المُفرط في الأسعار، والركود في قطاع الأعمال.
بُناءً عليه، فإن هذا تكلفة هذا الانقلاب ليس فقط في تفاقم الوضع الاقتصادي ببلادنا الحبيبة وحرمانها من التمويل والدعم الدولي الضروري لتطوير بعض القطاعات الاقتصادية الحيوية، ولكنه أثر بشكل مباشر على معاش الفئات الضعيفة (وهذه حقيقة لم يعد ينتطح حولها عنزان). وإذا لم يستقر الاقتصاد على وجه السرعة، فقد تكون العواقب وخيمة على البلاد، ولهذا السبب فإنه من الأهمية بمكان أن يسلم الجيش السلطة لقيادة مدنية تستأنف الانتقال المدني.
أولاً: خطة التعافي الاقتصادي بعد نجاح الثورة المجيدة في 2019
كما تعلمون فقد أتت الثورة المجيدة، والتي أسقطت حكم البشير العسكري الذي دام لثلاثين عاما، بالأمل من جديد حيث تم تشكيل حكومة مدنية في سبتمبر 2019، وقد أتاح تغيير نظام البشير الفرصة لإجراء إصلاحات جوهرية وإعادة بناء الاقتصاد الذي كان مُثقلاً وقتها بالإختلالات الداخلية والخارجية، والإدراج في قوائم الإرهاب، وتركة المديونية الخارجية غير المستدامة، والحرمان من الوصول للتمويل الخارجي وتدفق الاستثمار الأجنبي المباشر.
كما أنه بعد تشكيل الحكومة الانتقالية وبقيادة مدنية، انطلق السودان في رحلة إعادة الانفتاح على العالم واستعادة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع المؤسسات الدولية والجهات المانحة. وبالفعل، وفي ديسمير2020 تُوّجت جهود الدبلوماسية السودانية عندما قامت الولايات المتحدة بإزالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، مما سمح للحكومة الانتقالية بتلقي منح مالية من الولايات المتحدة وبريطانيا لسداد متأخراته لدى البنك الدولي وبنك التنمية الأفريقي، ومن هنا بدأت رحلة تطبيع التعامل مع المؤسسات المالية الدولية والاندماج في مجتمع التنمية الدولي بشكلٍ رسمي.
ومن ثم دخلت البلاد في عملية إصلاحات اقتصادية لمعالجة التشوهات الهيكلية، حيث توصلت الحكومة الانتقالية لاتفاق مع صندوق النقد الدولي حول برنامج يراقبه موظفي الصندوق، ويحتوي على سياسات مالية ونقدية صارمة، وإصلاحات ضريبية، وإصلاح دعم المحروقات التشويهي، وإصلاح نظام سعر الصرف، وإدخال برامج حماية اجتماعية للتخفيف من الأثر السلبي للتكلفة الاجتماعية المرتبطة ببرنامج الإصلاح.
وبموجب هذا البرنامج شرعت السلطات (وزارة المالية وبنك السودان المركزي) في معالجة مسألة المؤسسات الملوكة للدولة وكيفية الرقابة عليها وإرساء دعائم ولاية المالية على العام، وقدم تم تقييد وصول تلك المؤسسات للتمويل المصرفي وذلك من أجل تعزيز نمو القطاع الخاص وفتح فتح العمل التي يتيحها القطاع الخاص.
كما اتخذت الحكومة الانتقالية خطوات ايجابية لمعالجة تجارة الذهب غير المشروعة (تهريب الذهب). وقامت بوضع إجراءات لصادرات الذهب التي تعزز مكانة السوق الموازي للعملات الأجنبية، وشرعت في إجراء تعديلات على قانون الثروة النفطية والمعدنية بهدف تحسين الشفافية والمساءلة والحوكمة (وهذه مُدرجة ضمن الإصلاحات المؤسسية).
جدير بالذكر أنه قد صاحب تلكم الإصلاحات ارتفاع كبير لأسعار الوقود وأسعار الخبز مما أدى إلى اضطرابات اجتماعية، ولكن بحلول صيف عام 2021 بدأت ثمار تلكم الإصلاحات.
حيث حقق السودان إنجازا بارزا في 29 يونيو2021 عندما وصل رسمياً إلى نقطة قرار الهيبك. وعندها قرر البنك وصندوق النقد الدوليين أن البلاد حققت أداءً مُرضياً على صعيد السياسات المضمنة في برنامج الإصلاح، وبالتالي أصبحت مؤهلة للاستفادة مبادرة البلدان الفقيرة المُثقلة بالديون (الهيبك). وبموجب المبادرة سيتم إعفاء حوالي 56 مليار دولار أمريكي عندما يصل السودان لنقطة الإنجاز في يونيو 2024 (هذا وفق مستند إطار إتفاقية الهيبك المعززة، والمنشور في موقع الصندوق).
ومن أجل مساعدة السودان للمُضي قدما في طريق الإصلاحات، فقد طلبت الحكومة الانتقالية توقيع اتفاق التسهيل الائتماني المُمدّد بقيمة 2.5 مليار دولار لتنفيذ برنامج مدته 39 شهراً وينتهي بإعفاء المديونية الخارجية، وذلك لمواصلة الإصلاح الاقتصادي والإصلاح المؤسسي وتعزيز الحوكمة الاقتصادية وكبح الفساد، وتعزيز شبكة الحماية الاجتماعية.
وهذا البرنامج الذي يحتوى على إصلاحات محددة في المنطقة الفاصلة بين نقطة اتخاذ القرار ونقطة الانجاز، كما أن الاستمرار في عملية تخفيف الديون الخارجية والإصلاحات الطموحة حققت أول بوادر الاستقرار الاقتصادي وخاصةً في الفترة من يوليو وحتى قبل وقوع الانقلاب في 25 أكتوبر 2021.
وكنتاج طبيعي للإصلاحات أعلاه، فقد انخفض معدل التضخم بمقدار 35 نقطة لأول مرة منذ أكثر من عام، واستمر توالي الانخفاض بعد ذلك، كما انخفض العجز المزمن في الميزان التجاري بنسبة 25% في النصف الأول من 2021 مدفوعاً بزيادة الصادرات على أساس سنوي، وارتفعت كذلك تحويلات السودانيين العاملين بالخارج من 136 مليون دولار في النصف الأول من عام 2020 إلى 717 مليون دولار في النصف الأول من عام 2021
ووفق لما هو مبين في مسودة تقرير الموازنة العامة للدولة لسنة 2022 فقد انخفض عجز الحساب الجاري من 5.8 مليار دولار في عام 2020 إلى 990 مليون دولار في عام 2021 ويرجع ذلك أساساً إلى انخفاض العجز التجاري بعد تبني سياسات إصلاح سعر الصرف وتحسن مستوى التحويلات الخارجية.
وفيما يلي أداء الموازنة العامة للدولة، فقد تحسنت تعبئة الإيرادات المحلية وخاصةً في الفترة من يوليو وحتى منتصف شهر سبتمبر 2021، حيث بلغت حصيلة الضرائب غير المباشرة فقط حوالي 48 مليار جنيه في شهر أغسطس، حيث أسهمت في قدرة وزارة المالية على تعطية العديد من الالتزامات، وتأثرت بعدها بسبب إغلاق الموائي، والذي بدوره أسهم في نهاية المطاف في حدوث الانقلاب. وتم الالتزام الصارم بالحدود المقررة، حيث بلغت نسبة العجز الكلي للموازنة إلى إجمالي الناتج المحلي 0.64% أي أقل من 1%.
ثانياً: الآثار الكارثية لانقلاب 25 أكتوبر 2021
كما تعلمون فإنه بعد الانقلاب فقد تبدل الحال، حيث أن كل التطورات الإيجابية المذكورة تعرضت لخطر التراجع. فقد قطع الانقلاب المسار الديمقراطي وأعاد السودان إلى حالة عزلة مماثلة لتلكم التي كانت سائدة أيام حكم البشير الاستبدادي. كما أن خلال سنة الانقلاب الماضية، كان له تأثير بائن على أداء المؤسسات الاقتصادية والأسواق المحلية. وكذلك على الصعيد الدولي أوقف المانحين على الفور صرف الأموال المخصصة بالفعل للإصلاحات، ونتيجةً لذلك خسر السودان حوالي 4.6 مليار دولار أمريكي من المساعدات التنموية الضرورية، من بينها حوالي 2.6 مليار دولار من مؤسسة التنمية الدولية التابعة للبنك الدولي، كانت مخصصة لتطوير مشاريع حيوية في الزراعة والري والطاقة والصحة، بالإضافة إلى حوالي 580 مليون دولار خصصها المانحين الأجانب لبرنامج دعم الأسر السودانية.
كما قامت الولايات بتعليق 700 مليون دولار من المساعدات التي تمت الموافقة عليها بعد إلغاء تصنيف السودان كدولة راعية للإرهاب، تجدر الإشار إلى أنه تم من قبل تسليم 350 ألف طن متري من القمح بقيمة 125 مليون دولار لتخصص للخبز المدعوم في البلاد. وفي يونيو 2022 أعلنت مجموعة دول نادي باريس تعليق إعفاء مديونيتها المستحقة على السودان.
وقد أثرت هذه الخسائر في المجمل على أداء موازنة 2022 حيث تواجه البلاد حالياً أزمة اقتصادية كبيرة، وإذا استمر الانقلاب واحتفظ العسكر بالسلطة، من المتوقع أن يتم عجز الموازنة في مقبل السنوات بشكل أساسي عن طريق الاستدانة من البنك المركزي وقيام البنك المركزي بالأنشطة شبه المالية نيابةً عن وزارة المالية، كما هو مشاهد في العهد المُباد.
كذلك خسر الجنيه السوداني نحو30% من قيمته أمام الدولار، لكن الإتجاه النزولي لقيمته توقف بشكل رئيسي بعد نهاية شهر مارس 2022 بسبب ضعف الطلب على العملات الأجنبية في ظل الركود والتراجع في قطاع الأعمال وانخفاض القوى الشرائية للأسر.
كما أنه ولتعويض خسارة الإيرادات خاصة فقدان المنح كمكون أساسي فيها، فقد استمرت الحكومة الانقلابية في رفع أسعار عدد من السلع والخدمات والرسوم على كل شئ تقريباً ومن أهمها ضريبة أرباح الأعمال بنسبة 100%، والرسوم الجمركية ورسوم الرعاية الصحية.
ومنذ الانقلاب، فقد ارتفع سعر الخبز أكثر من عشرة أضعاف مع اختفاء الخبز المدعوم تماماً، بينما شهدت السلع الأخرى ارتفاعاً في الأسعار يتراوح بين 200-300%، كما قفزت أسعار البنزين والديزل بأكثر من 135% وهذا يعني أن أسعار الوقود في السودان تبدو أغلى بكثير مما هو عليه الوضع في البلدان المجاورة، فمن الواضح أن هنالك مشكلة في كيفية إدارة استيراد المحروقات بعكس ما هو كان معمول به في الفترة الانتقالية حيث أن هناك آلية واضحة للتسعير التلقائي للمحروقات. وبالتالي فقد أدى ارتفاع أسعار المحروقات إلى زيادة تكااليف النقل، مع تداعيات واسعة النطاق على الإنتاج والقوى الشرائية للأسر وخاصةً في الولايات.
عليه، فقد تفاقم الوضع المعيشي للمواطنين نظراً لارتفاع التكلفة بشكل قياسي، ولهذا تعرضت الأسر السودانية الضعيفة لخطر انعدام الأمن الغذائي، وفي الوقت الحالي يواجه حوالي 30% من السكان خطر المجاعة وفق التقارير الدولية الصادرة في هذا الشأن.
وكذلك تراجعت مجهودات النهوض بالقطاع الخاص، وخاصةً بعد وقف برانامج الإصلاح الذي يركز على تحجيم سيطرة الشركات المملوكة للدولة على الاقتصاد. بالإضافة لذلك، ونظراً لغياب الحوكمة الاقتصادية والمساءلة فقد فتح الانقلاب الباب مجددا لعدم القدرة على إدارة الموارد الطبيعية للبلاد، ولا سيما في قطاع تعدين وصادر الذهب، الأمر الذي قد ينطوي عليه فقدان عائدات كبيرة من العوائد الجليلة، وبالتالي يحد من قدرة الدولة على تمويل الأولويات الاقتصادية والاجتماعية.
وعلى كل حال، تبدو الآفاق متشائمة مع استمرار الانقلاب، وستكون نهاية 2022 مصحوبة بتحديات عديدة، وربما أكثر خطورة وصعوبة في عام 2023 حيث يواجه السودان خطرا متزايدا من الركود الحالي، ومن المرجح أن يؤدي تراجع قطاع الأعمال وانخفاض القوى الشرائية للأسر إلى تباطؤ النمو الاقتصادي الحقيقي.
ثالثاً: المخرج من الأزمة الحالية
من أجل إعادة التعافي للاقتصاد السوداني، لابد من اسقاط الانقلاب في أسرع وقت ممكن، حيث تحتاج البلاد العودة إلى مسار الانتقال الديمقراطي بقيادة حكومة مدنية. كما يجب بناء الثقة بين المدنيين وقوات الشعب المسلحة من أجل استدامة التحول الديمقراطي.
وعلى القوات المسلحة أن تقبل أن دورها وفق القانون، يقتصر على توفير الأمن وحماية مقدرات البلاد، ودون التدخل في شؤون الحكومة التنفيذية. كما ينبغي أن توافق على إصلاحات واسعة في قطاع الأمن والمؤسسات المملوكة للدولة، ودمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة، ومراجعة اتفاق سلام جوبا مع حركات الكفاح المسلح، لضمان استدامة الأمن والسلم. وهذه الإصلاحات ضرورية للغاية لضمان بقاء القوات المسلحة بعيدة من التدخل في الشؤون السياسية.
وبمجرد عودة الحكم المدني، يجب أن تسيطر الحكومة المدنية بشكل كامل على عملية رسم السياسات، كما يجب تكون كذلك مؤسسات الدولة قادرة على العمل بشكل مستقل دون تدخل من الجانب العسكري، وبالتالي يمكن انتهاج خطة تعافي اقتصادي واسعة النطاق. وفي هذا الإطار، تقوم باستئناف المشاورات مع الصندوق والبنك الدوليين وشركاء التنمية من أجل التوافق حول قيد زمني جديد لبرامج الإصلاح. وينبغي السعي توفير واستعادة ضمانات التمويل وذلك لتخفيف عبء المديونية الخارجية. وفي المقابل، يجب على الحكومة المدنية اتباع استراتيجية واضحة لتأسيس دعائم برامج الحماية الاجتماعية للمساعدة في معالجة التأثيرات الاجتماعية لعملية الإصلاح، حيث ثبتت جدوي التحويلات النقدية المباشرة للأسر المستحقة في معظم البلدان. وكأهم أولوية عاجلة للحكومة هي التصدي لأزمة تكلفة المعيشة وتحسين مستوى الخدمات، وخلق فرص عمل للشباب، وزيادة مشاركة المرأة في القوى العاملة.
والأمر الأهم هو الاستمرار في برنامج تشخيص حالة الحوكمة الاقتصادية الذي يأتي كجزء من برنامج الإصلاح المؤسسي، وفق الاتفاق مع الصندوق، ويشمل إرساء دعائم االشفافية والمساءلة وخاصةً في الصناعات الاستخراجية، والنشاط الاقتصادي غير المشروع لا سيما في قطاع التعدين، وتعزيز بيئة عمل آمنة وشفافة للقطاع الخاص. ويتطلب الإصلاح المؤسسي مواصلة تدابير مكافحة الفساد واستراد الأصول المنهوبة.
وختاماً، نتطلع إلى الدور المهم الذي يلعبه المجتمع الدولي والإسهام في استقرار الاقتصاد السوداني. حيث أن البلاد بحاجة إلى استئناف عملية إعفاء الديون وتسهيل الوصول إلى التمويل المُيّسر لأغراض تطوير البنية التحتية، والخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم، وهذا الدعم ضروري للخروج من حالة الهشاشة الحالية بسبب الانقلاب.
*نائب محافظ بنك السودان المركزي سابقا
المصدر