الحركات المسلحة في السودان: عصبة أم مدنيون؟
ظهر القيادي الإسلامي ناجي مصطفى في فيديو وهو يندد بالعلاقات مع إسرائيل إثر زيارة وزير خارجيتها إيلي كوهين للسودان في أول فبراير (شباط) الماضي. وقال إنهم جاهزون للسلام مع “العدو الصهيوني” فيما يظهر من خلفه عدد من الشباب الملثم لا يتجاوز أصابع اليدين كل مدججاً بالسلاح. تابع ناجي “تعالوا إلينا بـ(التطبيع)، فسنلقاه بما يستحق، وسيرى منا”، مشيراً إلى الشباب الملثم من ورائه، وهو ما لم ينسه.
ونقول عرضاً إن ناجي وقع تحت طائلة ملاحظة قديمة لإدوارد سعيد فرق فيها بين المقاومة الفعالة عن فلسطين في وجه إسرائيل، وبين المعارضة كيفما اتفق. وضرب للمقاومة كيفما اتفق مثلاً بفلسطيني سمعه في شبابه يقول إنه سيطرد عشرات اليهود وحده بعصاه لا غير.
مادة
ولكن السؤال المهم هنا: كيف اتفق لرجل في منزلة ناجي من الدعوة للحق والمثابرة أن يعرض نفسه على الملأ وقد تأبط عصبة مسلحة لن يحسن هو قيادتها في أي من ساحات الوغى؟ ويمثل ناجي الآن أمام المحاكم وقد طاوله قانون الإرهاب.
تعتري السودان منذ عقود حالة شقية هي الإفحام بالسلاح. فكاد القول عندنا يبطل ليعلو السلاح كالحجة الفيصل. فصارت البندقية، بعبارة شعبية، “مقلام الحجج” (أي أداة تقليمها). فقل من يبذل اليوم جهداً لتأسيس حيثيات موقفه. فما جدوى إنفاق وقتك في بناء حجتك وتدبيجها في حين أن الأذن لم تعد تصيخ إلا لصوت الرصاص، أو التهديد بصوته.
سنتوقف هنا بعض الشيء لوصف البيئة التي جعلت جلاء الشك والريب لبيض الصفائح، لا سود الصحائف. ولن تستغرب أن اكتنفتنا هذه البيئة المولدة للعزة بالسلاح متى علمت أننا عشنا 43 عاماً من سني استقلالنا تحت نظم ديكتاتورية عسكرية. وكانت ذريعة من قاموا بالانقلابات الثلاثة الناجحة الحاكمة أن الديمقراطيات الثلاث قصيرة العمر التي شهدها السودان محض لغو حزبي. وخرجت هذه الانقلابات لتطهيرنا من أدرانه. والانقلابات كثيرة. فأخرجت سياسة الثكنات هذه أثقالها. فتتالت انقلابات بلغت عشرة تريد إفحام الانقلاب الحاكم وإطاحته. وتكبدت القوات المسلحة وحدها بالنتيجة 50 ضابطاً قتيلاً.
ولم ينفد صبر صفوة الجيش وحدها بالديمقراطية. فكانت صفوة الهامش بادرت بالزهد فيها. فـ”تمردت” طليعة من القوميين في جنوب السودان خلال فترة الحكم الذاتي (1954-1965)، أي حتى قبل نيل استقلالنا نفسه، ثم عادت تلك الطليعة للزهد بالديمقراطية بعد استعادتها في 1964 بمواصلة “حركة أنيانيا” المسلحة، القتال، بينما كان ينعقد مؤتمر المائدة المستديرة أوائل 1965 لوضع الحلول لمظلومية الإقليم الجنوبي.
ولكن الحركة عادت بعد أفول الديمقراطية بانقلاب جعفر نميري في 1969 لتتعاقد مع نميري على نظام للحكم الذاتي باتفاقية أديس أبابا في 1972. وبدا أنها تعاقدت مع النظام الخطأ. فألغى نميري الاتفاقية من طرف واحد في 1983 بتحالف مع صفوة ولاية الاستوائية في الجنوب الذين ضاقوا بسيطرة صفوة شعب دينكا ولاية بحر الغزال على مقاليد الحكم الذاتي. وعادت الحرب الأهلية في دورة جديدة بقيادة العقيد جون قرنق في 1983. ولم تغر عودة الديمقراطية في 1985 بثورة شعبية قرنق ليكف عن الحرب. وتطابق بذلك مع الجيش في الزهد بالديمقراطية. وانقلب الجيش على النظام الديمقراطي في 1989 ليقوم حكم الإنقاذ بقيادة الرئيس المخلوع عمر البشير. وتكررت عادة القوميين الجنوبيين في استدبار النظام الديمقراطي وشن الحرب لتصالح نظاماً عسكرياً ديكتاتورياً في نهاية المطاف: حدث هذا مع البشير في 2005، كما حدث مع نميري في 1972.
لربما كنا أشبعنا هرج السلاح بيد الحكومة الديكتاتورية نقداً في حين أعفينا الحركات المسلحة من مثله، وهو إعفاء مقصود ومبيت لأن عثراتها بالسلاح مسامحة طالما كانت في صف المعارضة لحكومة الوقت الديكتاتورية. ومن ذلك غض المعارضون الطرف عن النقد القليل الذي صدر عن ممارسين للكفاح المسلح. فلم يرخ المعارضون سمعهم للنقد البليغ الذي وجهه كل من الأكاديمي “لام أكول” للحركة الشعبية لتحرير السودان بعد مغادرته صفوفها في كتابه “داخل ثورة أفريقية” (2001)، ومحمد هارون كافي، الكاتب والمقاتل في نفس الحركة من جبال النوبة، في كتابه “نزاع السودان” (1997). وربما عد المعارضون الكتابين تجديفاً بحق حركة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
ولم يتأخر نقد الحركات المسلحة لفرحها بالسلاح والإساءة به طويلاً. فصدرت خلال السنوات الماضية كتابات في باب هذا النقد من رموز بارزة في هذه الحركات. فكتب ياسر عرمان، القيادي في الحركة الشعبية، والعقيد قرنق منذ النصف الثاني من الثمانينيات “نحو ميلاد ثانٍ لرؤية السودان الجديد” قبل ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2019، وبعد انقسام الحركة الشعبية، قطاع الشمال إلى جناحين بقيادة كل من عبدالعزيز الحلو ومالك عقار. وكان ياسر مع عقار، وهو الجناح الخاسر في ذلك الانقسام.
من الجهة الأخرى، نشر شريف حرير، الأكاديمي ومؤسس التحالف الفيدرالي الدارفوري (1994)، كتابات في مناسبة تكريمه أخيراً أخضع فيها الكفاح المسلح لشواظ نقد فادحة.
دعا ياسر عرمان في كلمته إلى أنه جاء الوقت لمراجعة تجربة الكفاح المسلح ورد الاعتبار للعمل السلمي الجماهيري دون أن يعني هذا التخلي عن هذا الكفاح. فلن تخرج الحركات المسلحة من عنق الزجاجة إلى تحقيق أهدافها الاستراتيجية، في قوله، من دون التوصل إلى استنتاجات سليمة “حول أهمية العمل السلمي الديمقراطي في داخل المدن” واستنهاض جماهيرها.
وركز ياسر على وجوب ارتهان السلاح بالوعي السياسي وبالديمقراطية في أداء الحركة المسلحة. فقال إنه من طريق ضعف الوعي السياسي في الكفاح المسلح استطاع نظام الإنقاذ صناعة حروب لصالحه في الهامش ارتكبت خلالها انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان بيد جماعات زعمت التحرير.
ونعى ياسر تجفيف الحركة المسلحة للديمقراطية في أدائها. فقال إن هيكل الحركات المسلحة التنظيمي اتسم بالعسكرة والتراتبية مما قلص مساحة الديمقراطية الداخلية، ومركز عملية اتخاذ القرار واحتكاره. وأسهم هذا “في خلق مناخ مواتٍ لانتشار الفساد الذي بدأ بالتلاعب في الإمدادات وعدم توزيعها بعدالة”. وهو فساد لم يبرحها حتى وهي في الحكم.
وغابت بالنتيجة المحاسبة عملاً بالقاعدة في حركات التحرير “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، أي بالتركيز على العدو في الخارج، تاركين “مساحة للوحوش الداخلية لتنمو”. وساء الأمر بعدم ثقة قوى الريف في مناضلي المدن ممن التحقوا بالكفاح المسلح، بل “وعدم مساواة العضوية التي تناضل بوسائل غير الكفاح المسلح في الحقوق والواجبات”. وأدى هذا إلى تكلس الكفاح المسلح وتجمده مقتصراً على أساليبه الخشنة في ريفه “في غياب تام لوسائل العمل الناعم، مما أدى إلى نتائج سالبة على الكفاح المسلح نفسه”.
وكان شريف حرير الأقرب من ياسر إلى مقاربة علاقة السياسي والعسكري في الكفاح المسلح. فقال إن حركات دارفور المسلحة التي وصفها بالتكاثر والتشظي، أسيرة سوء فهم. فنهضت باسم “شعب زعل وتعسكر” لتفتتن بالعسكرية.
والعسكرة، في قوله، “وسيلة لعمل سياسي، وليست في غاية حد ذاتها”. وقال إن على الحركات المسلحة ألا تخدع نفسها بأنها تكوين عسكري. فتجد قادتها يقارنون بين العسكرية والسياسة مقارنة مجيرة لصالحهم. فيقولون إنهم عسكريون على الجادة، بينما ساء السياسيون مصيراً. فذكرهم حرير بأنهم سياسيون في الأساس وليسوا عسكراً. وأبدى حرير شفقته على الشباب الذين تنادوا للحركات المسلحة مكرهين بالظلم. فالحركات، في قوله، تعسكره بدلاً من أن تسيسه. وبعسكرته تخرجه من صناعة القرار السياسي لأنهم جعلوا من العسكرية للثورة “جندية” تخضع لسلسلة الأوامر المتدرجة من علٍ. وتساءل “كيف تخرج وبكامل وعيك لتحرير أهلك لترتهن لإرادة قائد، وتقول نعم سيادتك، حاضر سيادتك؟. فمتى ما طأطأت لمثل هذه التراتبية نفيت نفسك كثوري وهزمت الثورة. فالذي يقود الثورة العمل الواعي والفكر السياسي للدفاع عن النفس حيال جهاز قمعي للنظام. وقال للشباب متى كان هدفكم من العمل المسلح الاستيعاب في جيش الظالم والميليشيات فقد ألغيتم بأنفسكم جيشانكم الثوري الأول الذي جاء بكم لحركة التغيير السياسي”.
انتهى ياسر وحرير إلى عبارة مأثورة عن منزلة السلاح في الحركة الثورية لأمليكار كابرال، زعيم حركة تحرير غينيا بيساو من الاستعمار البرتغالي في الستينيات. فقال كابرال يحذر حركته من العزة بالسلاح والفجور به إلى أن الحركة المسلحة ليست عصبة عسكرية (military)، بل مناضلين تأبطوا سلاحاً مكرهين (militant). ولا يخفى أن حركاتنا المسلحة افتتنت بالسلاح افتتاناً أنساها أصل حملته كمدنيين في أول أمرهم. وتأخر كثيراً نقد هذه الحركات على هذه العاهة بذريعة ألا نقد لمعارض من معارض. وها نحن نرى معارضي الأمس رفاق الحركات المسلحة من عطلوا نقدها لعقدين من الزمان هم الأعلى صوتاً في الضجر منها. تأخر النقد طويلاً للحركات المسلحة، ولكنه يلاحقها الآن كما رأينا.
عبدالله علي ابراهيم
* نقلا عن “اندبندنت عربية”
مصدر الخبر