الثورة السورية ومتطلبات العرب – النيلين
الانكسار المفاجئ لرئيس سوريا بشار الأسد مساء 6 ديسمبر 2024م بعد أن جثم هو وأسرته على كرسي الحكم على مدى 54 عاما، ثلاثون منها هي فترة حكم والده الفريق أول حافظ الأسد، الذي قام بإنقلاب عام 1970م ثم استلم منه الحكم إبنه بشار عام 2000م.
للأسف انحدار سوريا السياسي والإداري على مستوى الدولة، بعد ليبيا واليمن، واستشراء مظاهر الفوضى المسلحة في غالب أرجائها منذ عام 2010م بما أفضى لتغيير نظام الحكم عبر المعارضة المسلحة، كضرورة قصوى، يؤكد صحة وموثوقية المثل العامي السوداني:
” الفشا غبينتو خرب مدينتو”.. فها هي مدن الطغاة المنتقمين من معارضيهم السياسيين بلا رحمة، وحرصهم الأناني، واستفرادهم الفرعوني بالسلطة، من لدن القذافي وعلي صالح وحتى زين العابدين بن علي، الذي فر بجلده تاركا وراءه بلدا مهلهلا سياسيا ومتشاكسا مع مكوناته اجتماعيا يفتقر للمؤسسات البانية وحكم القانون.
حالة السودان في أبريل 2019م لم تكن مفاجئة ولا بدعا، فهي سنة السودانيين في فقه السياسة من لدن ثورتي أكتوبر 1964م وأبريل 1985م، اللتين أفضتا لحكومتين منتخبتين بسلاسة فائقة. بيد أن بدعة تقاسم العسكريين مع المدنيين غير المسبوقة في تاريخ السودان السياسي، والتدخل الأجنبي المباشر من سفارات الدول الأجنبية، هو ما أفضى بأهل السودان لما هم فيه من هم وامتعاض وغثيان.
ذلك لأن من ترك المجرب “حاقت به الندامة” كما يقول مثل أهل السودان الآخر.
أما على المستوى الدولي فإن ما حدث في سوريا هو اقتباس منهجي، وتطبيق حرفي، لما أحاط بالجنرال اليوغندي عيدي أمين دادا في عام 1979م، عندما انطلقت المعارضة المسلحة من تنزانيا المجاورة، بمشاركة وتواطؤ رئيسها جوليوس نايريري، الذي سلح وحمل المعارضة المسلحة على مركبات جيشه، يتقدمهما يواري موسوفيني وبول كاقامي فحكما يوغندا ورواندا على التوالي، وحتى يومنا هذا.
بيد أنه يتعين على المعارضة السورية، التي أصبحت اليوم صاحبة الأمر، ولاقت الترحيب من عموم الشعب السوري، باختلاف مكوناته الاجتماعية والثقافية، وبعد قرارات قيادات الجيش العربي السوري الوطنية والجريئة التي حقنت دماء شعبهم، عليهم أن يستفيدوا من دروس من سبقهم في هذا المضمار، من البعداء وأهل الجوار، والإعتبار بعواقبهم.
فعليهم أولا إعلان موعد لإجراء الانتخابات العامة وفي فترة لا تتجاوز العام الواحد، مهما كانت الأعذار، فإن التطاول مضر بإدارة الحكم، وتجربة السودان منذ أبريل 2019م هي خير برهان.
ثم يجدر بقادة الثورة عقد مؤتمرات شاملة للمصالحة الوطنية، والسعي بقدر ما يتيسر للعفو العام، وفتح صفحات نظيفة دون ضغائن ولا ثارات مع شعبهم، وإكرام من استذل بنزع الملك وبدلت أحوالهم، لأن تلكم هي سنة نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، وهي عقيدة معظم السوريين.
فهو الذي عفا عن مقاتليه من طغاة مكة وجلاوذتها المشركين الذين ساموا المسلمين سوء العذاب؛ فقال لهم وهم يرسفون بين يديه في الأغلال خاشعين وأذلاء منكسرين:
“إذهبوا فأنتم الطلقاء”؛ فعرفوا بذلك اللقب الإنساني الحليم إلى يوم الناس هذا وفي تواريخ البلدان وسير الأعلام.
كذلك يجدر بقادة السلطة السورية الجديدة أن يشكلوا حكومة قومية تحفظ التمثيل النسبي لكل الفصائل المشاركة من مواطنيهم، وألا يستأثروا بالحكم كغنيمة باردة، ولا يتعاملوا بالانتقام، ولا الانتصار لحظوظ النفس الأمارة، بل عليهم أن يستنوا بسنة النبي يوسف بن يعقوب عليه السلام، الذي يرقد بجوارهم، فيقولوا لمن أساء اليهم: “لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم”. وإنما قص الله أمره للمسلمين في القرآن لأخذ العبرة فيما سن قبلنا من المقربين وأولياء الله الصالحين.
يجدر كذلك أن تحفظ حكومة الثورة السورية العهود والمواثيق الدولية المبرمة مع الجميع، وخاصة مع دول وازنة دوليا وإقليميا، كروسيا وإيران وتركيا، ووفق قاعدة المعاهدات الدولية ومبدأ: “فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم”..
كذلك يجدر التنسيق وتعزيز العلاقات مع دول الجوار الشقيقة وخاصة لبنان والأردن والعراق.
للأسف ظل دور الجامعة العربية خافتا وغائبا وأقل من المطلوب طيلة فترة النزاع، ومنذ صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254عام 2015م والذي دعا للمصالحة الوطنية وإجراء الانتخابات العامة واستيعاب المعارضين في الحكم، فرفضته حكومة الرئيس بشار، فوصفتهم بالإرهابيين والمفسدين المارقين، وركنت لقوة حليفتيها روسيا وإيران لقمع مواطنيها.
فضلا عما ذكر، يتعين على الجامعة العربية الإرتقاء لمستوى الحدث والراهن الماثل على الأرض، وعليها أن تتحرك بنبض الشعوب، فلا تكون مجرد مكتب للسكرتارية أو وكالة للعلاقات العامة والمراسمية، والاكتفاء بإصدار المذكرات، وكما يراها كثير من المراقبين الدبلوماسيين.
الشعوب العربية تحتاج للأفضل لتمضي بعزة وثقة في مسيرة العصر والتقدم، ولن يتأتى هذا إلا بتغيير شامل ومدرك للواقع، يستلهم روح العصر ويحس نبض الجماهير العربية، ويتفهم اشواقها وتمنياتها، وعبر تفعيل آليات قاصدة للإرتقاء بالحكم الراشد وفي كل الدول الأعضاء، وتوسيع الشراكة السياسة القاعدية، والشورى البرلمانية، وتعزيز آليات المساءلة القانونية وبسط العدل والنزاهة.
دكتور حسن عيسى الطالب
مصدر الخبر