التحول الديمقراطي في السودان: الطريق إلى الأمام
[*]
مجموعة عمل التحول الديمقراطي في السودان[*]
- الخلفية التاريخية
اندلعت في ديسمبر ٢٠١٨م الاحتجاجات المناهضة لنظام المؤتمر الوطني وما صاحبه من فساد وحروب أهلية وبطالة وفقر، وذلك على نطاقٍ واسعٍ في مختلف أرجاء السودان. وقد تسببت قوات الأمن السودانية في مقتل عشرات المتظاهرين الأبرياء جَراء القمع المفرط والعنيف الذي مارسته ضد تلك الاحتجاجات. في ١١ أبريل ٢٠١٩م، ونتيجة لتصاعد وتيرة الاحتجاجات، أطاح الجيش السوداني بالرئيس السابق، عمر البشير، من السُلطة، وعُلِّق العمل بالدستور، وتم فرض حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر.
في 3 يونيو ٢٠١٩م، خلال فترة حكم المجلس العسكري للسودان الذي تسلم مقاليد السلطة عقب الإطاحة بالبشير، هاجمت قوات الأمن المتظاهرين المعتصمين في الخرطوم في محيط القيادة العامة للقوات المسلحة والمناطق المتاخمة لها، مما أسفر عن مقتل أكثر من ١٢٧ شخصًا على الأقل. وحاولت قوات الأمن – التي كان من بينها ميلشيات “قوات الدعم السريع” – إخفاء آثار الجرائم التي طالت المعتصمين والتي بلغت حد إلقاء الجثث في نهر النيل وربطها بأحجار حتى لا تطفو، وقد طفى على سطح نهر النيل حوالي ٤٠ جثةً بحسب ما ذكرته لجنة أطباء السودان المركزية. هذا إضافة إلى جرائم الاغتصاب والتعذيب التي طالت المئات من المواطنين والمواطنات المتواجدين في ساحة الاعتصام ومحيطها.
في الرابع من أغسطس ٢٠١٩م، وبعد تدخل الاتحاد الأفريقي، اتفقت المكونات المدنية المختلفة ممثلة بقوة اعلان الحرية والتغيير مع المجلس العسكري على اتفاق سياسي تم بموجبه تقاسم السلطة خلال الفترة الانتقالية وتحديد فترتها بـ ٣٩ شهر، على أن تُجرى الانتخابات في عام ٢٠٢٣م بعد نهاية الفترة الانتقالية.
في ٣ أكتوبر ٢٠٢٠م وقعت الحكومة على اتفاق سلام جوبا مع فصائل الجبهة الثورية ممثلة في أربع حركات مسلحة وتبع هذا التوقيع زخم سياسي وحملة لتسويق الاتفاق على أنه تسوية شاملة كحل نهائي لمشاكل الحرب في دارفور والنيل الأزرق وشرق السودان. لا يخفي على أحد أن عملية التفاوض شابها الكثير من انعدام الشفافية والأخطاء، كان على رأسها أن الشق العسكري في مجلس السيادة قد قام بمصادرة صلاحيات رئيس الوزراء عبد الله حمدوك حسب ما نصت عليه الوثيقة الدستورية لقيادة عملية التفاوض.
تعالت الكثير من الأصوات بالنقد حول الاتفاق بشكله الأخير باعتباره لا يخاطب جوهر القضايا التي بسببها اندلعت الحرب في دارفور والنيل الازرق وحالة الاحتقان في الشرق، بل أن الاتفاق تسبب لاحقا في تأجيج الأوضاع في شرق السودان نتيجة لما سمي بالمسارات التي تعاطت مع المشكلة السودانية من منظور مناطقي وجغرافي وأهملت طبيعة الدولة التي خلقت واقع التنمية غير المتوازنة. هذا بالإضافة إلى أن الاتفاق اختزل في الصيغة المعهودة لاتفاقيات السلام السودانية السابقة والتي لا تتجاوز تقاسم المناصب في السلطة على قيادات الحركات المسلحة أكثر منه اتفاق بغطاء شعبي لمعالجة القضايا الملحة للنازحين واللاجئين وقضية العدالة والأراضي المسلوبة.
بلا شك أن طبيعة السلطة التي تشكلت بعيد دخول عناصر الجبهة الثورية وممثلين لأحزاب تحالف الحرية والتغيير في الحكومة الانتقالية الثانية كانت تنضح بالتنافس السياسي على حساب عملية الانتقال الديمقراطي الذي دشنته ثورة ديسمبر. هذا المشهد كان يبدو واضحا أنه قد تمت صناعته وهندسته بواسطة اللجنة الأمنية للبشير والتي كانت هي الحاكم الفعلي للبلاد عبر واجهة الحكومة المدنية من أجل تهيئة الأوضاع للانقضاض على السلطة.
وبالفعل في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١م، استولى الجيش السوداني على السلطة من خلال الانقلاب الذي قاده الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان. وتبع ذلك سلسلة من الاعتقالات طالت عدد من كبار المسؤولين والوزراء في حكومة الفترة الانتقالية، بمن فيهم رئيس الوزراء المدني عبد الله حمدوك، لرفضه إعلان دعم الانقلاب حينها. بدأ السودانيون بعد ذلك حملة مقاومة مدنية ضد نظام الحكم العسكري مطالبين بإعادة الحكومة الانتقالية المنحلة. وفي ٢١ نوفمبر ٢٠٢١م، أعلن كل من قائد الانقلاب البرهان وعبد الله حمدوك عن التوصل إلى اتفاق تضمَّن إعادة الأخير لمنصب رئيس الوزراء وفق شروط مجحفة تأسيسا على سلطة الأمر الواقع. في يناير ٢٠٢٢م، أعلن رئيس الوزراء حمدوك استقالته بعد فشله في تعيين حكومة في ظل استمرار الاحتجاجات المناهضة للجيش في البلاد، والتي لا تزال مستمرة.
في الوقت الراهن، فإن جبهة الانقلاب العسكري المكونة من الجيش السوداني والدعم السريع والفصائل الموقعة على اتفاقية جوبا للسلام، وتتقاطع كل هذه المجموعات مع مجموعات الإسلاميين الموالية لبقايا نظام البشير يُحكِمون قبضتهم على السودان بشكل كامل، حيث يعتبر السودان خلال هذه المرحلة دولةً مختطفة بالكامل وقابعة في أَسر المؤسسات العسكرية وشبه العسكرية التي تستخدم مؤسسات الدولة كواجهةً لها لتُضفي قدرًا من الشرعية على وجودها وأنشطتها. على سبيل المثال، تمثّل منظومة الصناعات الدفاعية وغيرها من المؤسسات المملوكة لجهاز الأمن – والتي تتم إدارتها من خلال دوائر قريبة من النخبة العسكرية وحلفائهم – ضمن التدخلات العسكرية المباشرة السافرة في اقتصاد البلاد، حيث تهيمن على القطاعات الاقتصادية الحيوية من خلال مزاولة أنشطة خارج نطاق سيطرة الدولة. ويعتبر التدخل الواسع النطاق لقوات الدعم السريع والعديد من شركاء الانقلاب في تعدين وتهريب الذهب والمعادن غير المشروع والتجارة والعديد من المعاملات وغسيل الأموال تعديًا سافراً على بنية الاقتصاد السوداني وموارد البلاد. كما تشير التقديرات المتحفظة إلى أن استثمارات الجيش وقوات الدعم السريع تحتوي على أنشطة اقتصادية تبلغ عشرات المليارات بحساب الدولار تسيطر عليها مجموعة صغيرة من الأشخاص الذين لا يمكن مُسائلتهم أمام أي جهة حكومية.
لعقود من الزمان، استطاعت المؤسسات الاقتصادية المملوكة لقوات الأمن والمؤسسة العسكرية أن تتهرب من الرقابة الحكومية على مواردها المالية وأصولها من خلال الاستفادة من نفوذها السياسي وسيطرتها على الفضاء العام، حيث لا تخضع هذه الشركات لوزارة المالية أو الحسابات العامة الضريبية للدولة وديوان المراجع العام. كما تعمل مختلف هذه التكتلات الاقتصادية العسكرية وشبه العسكرية بمحاذاة الدولة التي تستخدمها لاكتساب الشرعية الاجتماعية والسياسية لنفسها. من هنا يتضح بجلاء أن التعامل مع أي بنية هيكلية من هذا النوع يتطلب استراتيجية متعددة المراحل لإنقاذ البلاد من الانهيار التام وحتى لا تنزلق البلاد في براثن الفوضى الكاملة نتيجة لتآكل ما تبقى من منظومة الدولة القانونية والسياسية.
وعلى ضوء هذه الخلفية، فإن الطريقة التي تمخضت عنها الأحداث في السودان خلقت مسارًا يُصعّب عملية الانتقال نحو الديمقراطية والدولة المدنية. وحتى وقت قريبٍ جدًا، كان هنالك عدد من الجهات الفاعلة تأمل في أن تثُمر نتائج جهود الوساطة المختلفة في السودان بالعودة إلى الترتيبات الدستورية لما قبل ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١م. علاوة على ذلك، يؤكد العديد ممن يدعمون هذا النهج أن السودانيين يحتاجون أولاً إلى العودة إلى نقطة البداية وهي إعادة إنتاج الشراكة بترتيبات الوثيقة الدستورية ومن ثم الانخراط في حوار حقيقي وصادق حول كيفية المضي قدما بهذا الوطن. ومع ذلك، يبدو أن هذه القراءة قاصرة من الناحية المنطقية لافتقارها لمراعاة المهددات والحقائق الماثلة على أرض الواقع.
- الوضع الراهن
أولاً، لا يوجد مركز قيادة موحد لجبهة الانقلاب على الرغم من تربع الفريق أول عبد الفتاح البرهان في صدارة المشهد ببذته العسكرية. وفي الواقع، يُعتبر هذا الانقلاب انعكاسًا لحالة توازن الضعف داخل التحالف الهش للانقلاب الذي يضم القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع والإسلاميين وحزب المؤتمر الوطني (حزب البشير) وأربعة أطراف من الموقِّعين على اتفاق جوبا للسلام (وهم، الحركة الشعبية لتحرير السودان، وحركة العدل والمساواة، وفصيلين من حركة تحرير السودان). لا يزال موقف الغالبية من الفاعلين في المجتمع الدولي مرتبك وغير واضح بشأن كيفية التعامل مع الانقلاب والعودة إلى ما قبل 25 أكتوبر. ومن ناحية اخري، هناك المكون السياسي الأكثر تنظيمًا داخل الانقلاب، وهو مكون الإسلاميين، الذي يسعى جاهدا للتراجع عن جميع الإصلاحات التي تم إجراؤها في البلاد خلال العامين الماضيين من أجل استعادة السيطرة الكاملة على مفاصل الدولة ولفرض شروط تجعل من المستحيل إرجاع عجلة الزمن إلى ما قبل ٢٥ اكتوبر. ومن المرجَّح أن تتمادى جبهة الانقلاب في التهديد والقمع واللجوء إلى العنف المنظم كوسيلة للحفاظ على الوضع الراهن (أي النظام الجديد الذي أفرزه الانقلاب).
ثانيًا، ما حدث لم يكن استيلاءً عسكريًا أو تعليقًا مؤقتًا لدستور ٢٠١٩م، لكن ما حدث بالفعل وما زال قائمًا هو انقلاب عسكري مكتمل الأركان. وقد تحبذ بعض الأطراف الدولية والإقليمية المختلفة تسميته بأي اسم آخر رغبة منهم في عدم تعريض جهودهم الدبلوماسية للخطر أو فقدان قدرتهم في أن يُصبحوا أطرافًا فاعلين أثناء استخدامهم لوسائل أخرى لممارسة الضغط على القادة العسكريين. كما أن التعامل مع الموقف باعتباره انقلابًا قد يقوّض قدرات بعض البلدان في أن تكون طرفًا فاعلاً ومؤثرا في مسارات الوساطة المحتملة.
ثالثًا، شككت الغالبية العظمى من السودانيين في الترتيبات الدستورية التي وُضعت نتيجةً لاتفاق تقاسم السلطة الذي أنتج الوثيقة الدستورية بين ائتلاف قوى إعلان الحرية والتغيير والمجلس العسكري الانتقالي الذي هو في واقع الأمر يضم أقوى الرجال العسكريين المتبقيين والموالين لنظام البشير. ويرجع جزء من ذلك إلى التاريخ الطويل لفشل المؤسسة العسكرية في التعاطي مع مسألة الحكم في السودان، إضافة إلى دلائل الفساد المقنن والحروب الأهلية المتجددة وانهيار الاقتصاد والخدمات المزمن والعزلة التاريخية التي ظل السودان يعاني منها خلال عقود من حكم المؤسسة العسكرية بالتعاون مع تنظيمات الإسلاميين. هذا إضافة إلى وضوح نهج المجلس العسكري الانتقالي في العمل ضد استحقاقات التحول المدني الديمقراطي ذو المغزى. وألقت الكيفية التي أجريت بها المفاوضات للتوصل إلى اتفاق تقاسم السلطة مع المجلس العسكري الانتقالي بظلالٍ من الشك المبرر على مستقبل هذه الشراكة العسكرية – المدنية.
السودانيون يرغبون في حكم مدني ديمقراطي متكامل الأركان
يطالب الشعب السوداني بنظام سياسي وفق ترتيبات دستورية من شأنها تحقيق العدالة، التي تحمي وتصون الحريات المكتسبة بصعوبة، وتُقيم أركان السلام والاستقرار الدائمين، وتمهّد الطريق لحكم ديمقراطي مدني. مما لا شك فيه أن التضحيات التي بُذلت ولا تزال تبذل نحو الوصول إلى الحكم المدني الديمقراطي منذ الانقلاب وحتى تاريخه هي تضحيات عظيمة وضخمة. فقد لقي أكثر من ١٠٠ شخصًا مصرعهم في خلال المواكب الاحتجاجية، وجُرح الآلاف وفقد العديد من الشباب من الجنسين أعضاء حيوية من أجسادهم وأصبح بعضهم من ذوي الإعاقة، واعتُقل المئات ببلاغات كيدية وبعضهم كان ضحية الإخفاء قسري. وبالإضافة إلى جرائم القتل، فقد استخدمت الأجهزة الأمنية المختلفة أنواع من التعذيب والاغتصاب للنساء والرجال بشكل منهجي كسلاح للتخويف وكسر شوكة المقاومة. هذا إضافة الى تصاعد وتيرة العنف المنظم وقتل المدنيين في مختلف مناطق السودان تحديدا في دارفور حيث لا تزال ولاية غرب دارفور تشهد انماطاً من الانتهاكات والعنف على مدار اليوم والساعة. فقد وصلت اغتيالات المدنيين في أحداث كرينيك الأخيرة الي ٢٠١ مواطن من بينهم أطفال ونساء وأعداد كبيرة من الشيوخ ومعلمي المدارس في أقل من ثلاثة أيام، هذا إضافة الى التدمير الممنهج للبنيات التحتية. أن مطالبات الشعب السوداني في مختلف بقاع السودان والاصرار على بذل كل هذه التضحيات الجسام من أجل الوصول إلى نظام حكم ديمقراطي يؤدي إلى استقرار البلاد، هي ليست مطالبات عبثية أو غير واقعية، بل هي تطلعات صادقة ومطالبات مشروعة نتاج خبرات طويلة ومعرفة عميقة بمحدودية وإشكاليات المؤسسة العسكرية وجبهة الانقلاب التي تسعى للزج بالبلاد إلى الانهيار والتشظي. وعلى هذا الأساس، يمكن قراءة الوضع الحالي والاستنتاج بأن المطلوب هو تطوير وبناء آلية للتفاوض تستجيب قدر الإمكان ووفق شروط الواقع لمطالب الشعب المشروعة وتعمل على اخراج الطبقة الحاكمة المتمثلة بالجيش وحلفائه من المشهد السياسي بأقل كلفة ممكنة.
- استراتيجية ثلاثية المراحل للدفع بعملية التحول الديمقراطي في السودان
عند تصميم هذه الآلية، نتصور أننا أمام استراتيجية تتألف من ثلاث مراحل ذات ثلاث وظائف متمثلة في التيسير والحوار والتفاوض، والتي ينبغي أن تنتهي بتحقيق ترتيبات سياسية تاريخية يجب أن يتمخض عنها ما يمكن أن يحفّز الجيش للرجوع لثكناته ويمهّد الطريق لصياغة دستور دائم ووضع الدولة على طريق المصالحة الاجتماعية بتأسيس لبنات الحكم المدني الديمقراطي المستدام. وبذلك، فان الأمر الذي لا لبس فيه منذ البداية هو قناعتنا المتجذرة بأن الجماعات السياسية المؤيدة والداعمة للديمقراطية هي العمود الفقري لهذه العملية التي نسعى إلى إطلاقها. وفي حين أن هذا المقترح يدعو إلى إشراك أغلبية الجهات السياسية الفاعلة (باستثناء حزب المؤتمر الوطني) مثل الموقِّعين على اتفاق جوبا للسلام والجماعات السياسية الأخرى، إلا أننا لا ننظر إلى هذه المجموعات بنظرة متساوية في ايمانها بالديمقراطية ودفعها لعملية الانتقال الديمقراطي. فعلى الرغم من الاختلافات الواضحة، فقد أثبتت القوى الداعمة للديمقراطية مرةً تلو الأخرى أن لديها تطلّعات حقيقية و صادقة لتغيير هذه البلاد تغييرا جذريا ينهي العلاقة مع الإرث المتراكم للفشل ويمهد الطريق لبناء جمهورية سودانية ثانية، هذا إضافة الى ان القوى الداعمة للديمقراطية لديها مشروعية تمثيل تطلعات وأحلام الغالبية العظمى للشعب السوداني، وقد أثبت السودانيون والسودانيات ذلك مرارا وتكرارا للمؤسسة العسكرية وحلفائها خلال أحداث ثورة ديسمبر وما تلاها من محاولات إجهاض الثورة من عنف منظم تمثل في مجزرة فض الاعتصام وما تلاها من بسالات أقل ما يقال عنها أنها منقطعة النظير.
وبالنظر إلى الطبيعة المتغيّرة للقوى السياسية الناشئة على أرض الواقع ودرجة انعدام الثقة بين جميع الأطراف السياسية تقريبًا، نرى أن جهة رفيعة المستوى تتمتع بتمثيل إقليمي يمكن أن تقود الجهود بالتشاور مع السودانيين لتسهيل الحوار والتفاوض بين القوي الثورية والجهات الفاعلة وأصحاب المصلحة المنخرطين في كافة التشكيلات الاجتماعية من نقابات واتحادات عمال وتنظيمات فئوية. كما نقترح تشكيل وسطاء على غرار دول الترويكا مع تمثيل إقليمي من الدول العربية والاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية (إيقاد) وبعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان (يونيتامس) لقيادة هذا الجهد والعمل بالتنسيق عن قرب مع السودانيين لقيادة هذه العملية عبر تسهيل هذه الجهات. الشاهد في الامر ان الوصول الى استقرار سياسي في السودان سوف يتطلب صبر وتفاوض منتظم حيث لا يمكن الوصول إلى حلول مستدامة عبر صيغة مستعجلة في ظل التعقيدات الماثلة في الوضع السوداني الحالي.
المرحلة الأولي والمرحلة المركزية
يتمثل دور الخطوة الأولى من الاستراتيجية في توحيد الجهات السياسية السودانية الفاعلة حول رؤية مؤيدة للديمقراطية من أجل المسار المستقبلي للسودان، ان عدم التمكن من تشكيل حكومة بأي شكل من الأشكال يجب ألا يعيق مرحلة عملية الوحدة هذه، وتتطلب هذه المرحلة من السودانيين المرور بثلاث خطوات رئيسية:
- الخطوة الأولى: تتطلب الخطوة الأولى المشاركة في توحيد القوى السياسية الداعمة للانتقال الديمقراطي حول رؤية وأجندة يتوافق عليها الفاعلين السياسيين وليس بتوحيدها في جسم أو كيان، بهدف تسهيل الاتفاق بين القوى السياسية الثورية (الأحزاب السياسية والجمعيات المهنية ولجان المقاومة والجماعات المسلحة التي لم توقّع على اتفاق جوبا للسلام، وتحديدًا الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة عبد العزيز آدم الحلو وحركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور). وأما كيفية فعل ذلك فيمكن أن تتمثل في تطوير عدة آليات لحل المسائل الخلافية وعقد سلسلة من اللقاءات/ الاجتماعات مع تلك المجموعات بشكل مستقل اولا كلٌ على حدة، ثم مطالبتهم ببلورة موقفهم حول كيفية تصوّرهم العمل مع الحلفاء الآخرين لتحقيق أهدافهم. ينبغي تتويج هذا الجهد بتأسيس برنامج مُتفق عليه بحيث يتم الإعلان عن الموقف النهائي المتفق عليه والتوقيع عليه باعتباره الموقف الرسمي الذي يمثل القوى الثورية المؤيدة للديمقراطية فيما يتعلق بآرائها حول التحول الديمقراطي ووسائل تحقيق أهدافه. يجب أن تحتوي هذه المرحلة على رؤية في أربع مجالات رئيسية للعمل: ١) دور الجيش في الدولة الديمقراطية السودانية المتصوّرة، و ٢) رؤية شاملة لصياغة الدستور، وتشمل المبادئ والآليات المتفق عليها، ٣) هياكل الحكومة في المرحلة الانتقالية وأهم مهامها الفورية، ٤) تصور متكامل للعدالة الانتقالية وكيفية تحقيقها مجتمعيا ومؤسساتيا.
تتحمل القوى الداعمة للتحول الديمقراطي في السودان مسؤولية التواجد في منصات التحاور مع مجموعات سلام وجوبا وغيرها من المجموعات التي قد يتعذر تواجدها في منصات الخطوة الأولى.
- الخطوة الثانية: الخطوة الثانية هي تيسير إقامة اللقاءات بين الجماعات السياسية الموقّعة على اتفاق جوبا للسلام ومطالبتهم بصياغة رؤيتهم للانتقال الديمقراطي المجرد من الشعارات التي ليست سوى حملة داعمة للوضع السياسي الراهن وهو وضع غير مستدام. ويتمثّل الهدف من هذه الوساطة والتيسير في توفير نهج معقول وعملي للحفاظ على اتفاق جوبا للسلام أثناء إنشاء مسار عملي للانتقال الديمقراطي، حتى لو كان ذلك يتطلب تعديل اتفاقية السلام أو نقل بعض المسائل العالقة ليتم التعامل معها من خلال آلية صياغة الدستور الدائم.
- الخطوة الثالثة: تتطلب الخطوة الثالثة بناء الثقة بين السودانيين قبل السماح لأي من الجماعات المشاركة في عملية التوحيد باعتبارهم جزء من الخطوتين الأولى والثانية لتيسير الحوار والتوسط بين الجماعات التي تحاول حاليًا لعب دور نشط. وقد باءت جهود هذه الجماعة بالفشل ولم تؤت ثمارها لتكون جزءًا من المرحلة الانتقالية في السودان وكانت مجرد رد فعل على الإقصاء السياسي والشعور بالعزلة. ويضم هذا المعسكر جماعات مختلفة من الإسلاميين (غير المنتمين إلى حزب المؤتمر الوطني) وأحزاب سياسية صغيرة وجهات فاعلة استثمرت في الماضي في تغذية شريان الحياة السياسي لنظام البشير في مناسباتٍ عديدةٍ، وكان آخرها ما يسمى بالحوار الوطني، والذي كان محاولة يائسة لإطالة أمد نظام البشير. ينبغي تتويج نتيجة هذا التيسير برؤية متفق عليها لتقدّم المسار الديمقراطي للبلد.
المرحلة الثانية
يتمثّل دور المرحلة الثانية من الاستراتيجية في الجمع بين العمليات الناتجة من مختلف المسارات الثلاثة في أي اجتماع أو مؤتمر يتم انعقاده لإنشاء آلية تنسيق تمثّل المعسكرات الثلاثة. ينبغي أن يُطلب من كل معسكر تقديم رؤيته للإصلاح العسكري والأمني وآلية لصياغة الدستور. كما يجب تشكيل هيئة خارج آلية التنسيق هذه ويمكن تسميتها بالآلية الوطنية للتوافق السياسي وبناء الدولة، ويجب على الجهات الإقليمية والدولية الفاعلة دعم الرؤية المتكاملة التي تنبثق من عمليات التفاوض بين تلك الجماعات. إضافة إلى ذلك، يجب الضغط على القادة العسكريين لقبول النتيجة باعتبارها إنذارًا نهائيًا لهم تترتب عليه عواقب وخيمة في حال عدم الالتزام. ينبغي تتويج نتيجة هذه الخطوة بتشكيل حكومة انتقالية مع مراعاة الوزن السياسي للقوى الثورية المؤيدة للديمقراطية ومع التأكد من الإبقاء على ما هو منطقي ومعقول من اتفاقية جوبا للإسلام والالتزام ببنودها ما أمكن ذلك. وتتطلب هذه المرحلة إعداد وصياغة ميثاق دستوري جديد وتفويض محدود للغاية للحكومة الانتقالية. وعلى إثر ذلك، فإننا نقترح ألا تتجاوز مدة الفترة الانتقالية ثلاث سنوات وأن تتلخص أولويات الحكومة الانتقالية فيما يلي: (١) إدارة الاقتصاد الوطني، وإصلاح الخدمة المدنية (٢) إصلاح النظام القانوني و (٣) إجراء التعداد السكاني، و (٤) إعداد وتجهيز البلاد للانتخابات العامة من خلال ضمان المصادقة على الدستور وقانون انتخاب عادل يعكس الروح الثورية للشعب السوداني.
ملاحظة: يجب توضيح أن الهيئة المعنية بالآلية الوطنية للتوافق وبناء الدولة لن تنافس أو تحل محل المجلس التشريعي الذي سيتم تشكيله كجزء من الحكومة الانتقالية. وعلى خلاف ذلك، سيبقى دور هذه الهيئة فنيًا بشكل بحت ولأغراض تنسيقية فقط، وينبغي أن تعمل بشكل وثيق مع المجلس التشريعي في المجالات المتعلقة بتسهيل وتيسير إجراء الحوار المجتمعي حول الدستور الدائم، بما في ذلك آلية صياغته والمصادقة عليه.
المرحلة الثالثة
ينبغي أن تدعم المرحلة الثالثة الآلية الوطنية للتوافق وبناء الدولة من خلال المجلس التشريعي طوال الفترة الانتقالية وتساعد في تعبئة الموارد المحلية والإقليمية والدولية لمساعدتها في تحقيق المهام السياسية الموكلة إليها، وهذه المهام هي: (١) صياغة رؤية وطنية للإصلاح الأمني والعسكري بما يشمل توحيد الجيوش وفق عقيدة جديدة وخروج المؤسسات العسكرية والأمنية من الأنشطة الاقتصادية المستقلة عن بقية جهاز الدولة، و (٢) وضع آليات لصياغة الدستور والمصادقة عليه.
ينبغي أن تستمر الآلية الوطنية للتوافق وبناء الدولة في إشراك جميع الجهات السياسية الفاعلة في حوار مجتمعي واسع وشامل وكذلك في الانخراط في الوساطة والتشاور، حيث ينبغي أولاً استكمال الإصلاح العسكري والأمني الذي يجب أن يحدد دور الجيش في الدولة السودانية المنشودة ويدمج اتفاقيات السلام ودور القوات المسلحة في الدستور الدائم.
وينبغي بعد ذلك الانتهاء من صياغة والإشراف على تصديق الآلية الوطنية للتوافق وبناء الدولة، وذلك تحت إشراف المجلس التشريعي. وبحلول نهاية الفترة الانتقالية، يستطيع السودان أن يكون دولة قد أصلحت قطاعها العسكري والأمني، وأجرت تعدادها السكاني، وصادِّقت على دستورها الدائم وفي حالة من الاستقرار تسمح بإجراء انتخابات عامة في أجواء سياسية تسمح بإحداث استقرار سياسي ومجتمعي.
- الخلاصة: إذا كنا نأمل ألا نعود إلى نقطة الانقلاب العسكري أو حالة الفوضى الكاملة في غضون عام أو نحوه، واستمرار هيمنة الأجسام العسكرية على السياسة والاقتصاد، فانه لابد من منح الأولوية لعملية سياسية تُعد خارطة طريق لبناء الدستور من أجل معالجة دور الجيش في مستقبل السودان. عبر تنفيذ هذه العملية السياسية يمكن للسودانيين أن يشيدوا أُسس الثقة وإتاحة المساحة للجهات السياسية السودانية الفاعلة للحوار والالتفاف حول رؤية وطنية تضمن وتدعم الانتقال الديمقراطي. لتدارك المهددات الحالية لا مفر من الانخراط في ترتيبات سياسية جادة لإيجاد آليات حوار مفهومة ومفصَّلة بوضوح تساعد في وضع أساس للثقة على الأقل. وإذا نجح ذلك، فإن نتيجة تلك العملية ستؤدي أيضًا إلى تلبية مطالب الشعب السوداني في الشارع والجهات الثورية الفاعلة فيه النابضة بالحيوية وتلبي بالضرورة التوقعات المستحقة وتضع البلاد على طريق التعافي والاستقرار.
[*] هذا المقترح نتاج عمل استمر لمدة ستة أشهر متواصلة وهو مقترح حي وقابل للتحديث من وقت لآخر من قبل مجموعة عمل التحول الديمقراطي في السودان. ستكون التعديلات المستقبلية ضرورية لإدخال مزيد من التوضيحات والتحديثات ولاستصحاب أي توصيات ضرورية لا بد منها لمواكبة الورقة لوتيرة الأحداث المتسارعة في السودان ولمواءمتها مع أية تطورات متلاحقة لمجمل العملية السياسية في السودان.