السياسة السودانية

«الاتفاق الإطاري» وما يليه.. إرث الماضي، تحديات الحاضر، وشراء المستقبل

[ad_1]

خالد عمر يوسف

شكل توقيع الاتفاق السياسي الإطاري في الخامس من ديسمبر الماضي اختراقاً مهماً في طريق استرداد مسار التحول المدني الديمقراطي الذي انقطع بانقلاب ٢٥ أكتوبر، لتنهض الحركة الجماهيرية في مواجهته منذ ذلك الحين متمسكة بغايات محددة لم تتراجع مطلقاً في سبيل بلوغها رغم العنف المفرط والجرائم التي ارتكبت في مواجهة هذا الحراك السلمي الشعبي.

الفرص والمهددات:

يوفر الاتفاق السياسي الإطاري فرصاً حقيقية لتأسيس انتقال مدني ديمقراطي يستفيد من تجربة الانتقال المجهضة ٢٠١٩-٢٠٢١، حيث عبر عن قضايا الشارع الرئيسية بوضوح في نصوصه التي حسمت بشكل لا لبس فيه قضايا مهام الانتقال الرئيسية وفقاً لأولويات محددة جاء على رأسها قضية نأي المؤسسة العسكرية عن السياسة كلياً، وحسم قضية الجيش الواحد وفقاً لجداول زمنية متفق عليها، والإصلاح الشامل للمنظومة الأمنية، وأولوية قضية العدالة، وقيام سلطة مدنية انتقآلية كاملة دون عودة للشراكة، وتفكيك نظام ٣٠ يونيو وفق منهج مطور يضع في الاعتبار دروس التجربة السابقة، وقيام انتخابات حرة ونزيهة عند نهاية المرحلة الانتقآلية.

بجانب هذه الفرص يواجه الاتفاق أيضاً مهددات لا يمكن إغفالها، أهم هذه المهددات هو تباين آراء بعض مكونات قوى الثورة حول الاتفاق، والتي في غالبها لا ترى أن الإشكال الجوهري في نصوصه بل في إمكانية تطبيقها على ضوء التجربة السابقة مع الطرف العسكري، إلى جانب ذلك تطرح قطاعات واسعة من قوى الثورة تحفظات مصدرها المخاوف من إسقاط قضية العدالة والمحاسبة. هذه القضايا التي تطرحها قوى الثورة هي قضايا موضوعية لا يمكن تجاهلها أو التقليل منها، بل الواجب أن تعالج بصورة جادة وعميقة، وهو ما يطرح مرة أخرى وبقوة قضية بناء أوسع جبهة مدنية ديمقراطية باعتبارها الضامن الأكبر للحفاظ على توازن قوى يميل لمصلحة الانتقال الديمقراطي اولاً وهو ما يصعب قطع الطريق عليه، وتضمن أيضاً استدامة الانتقال مع ضرورة وجود سلطة قوية مسنودة جماهيرياً ومتمسكة بالتحول الديمقراطي ومستعدة لخوض جميع معاركه حتى النهاية.

يتهدد الاتفاق أيضاً تربص قطاع واسع من قوى الثورة المضادة به، وذلك لأنه يشكل نهاية لآمالهم في الردة بالبلاد لعهود الاستبداد والفساد، حيث مهد لهم انقلاب ٢٥ أكتوبر طريق العودة للسيطرة على مقاليد البلاد، والتمدد مجدداً في مفاصل الدولة، لذا فإن هذه القوى صعدت من حملاتها بعد توقيع الاتفاق لأنها تعلم بأن الوصول لاتفاق نهائي وقيام سلطة مدنية انتقآلية على هديه، ستعني بالضرورة نهاية فرصة استعادة هيمنة مشروعهم الظلامي الاستبدادي.

الخطوات الجارية للوصول لاتفاق نهائي:

مع القراءة الموضوعية لفرص الاتفاق ومهدداته، يسير العمل على قدم وساق بين القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري والآلية الثلاثية للتحضير لانطلاق المرحلة الثانية التي ستقود للاتفاق النهائي بعد اكمال تفاصيل القضايا الخمسة وفق منهج يضمن أوسع مشاركة شعبية لأصحاب المصلحة بما يؤدي لأن يعبر الاتفاق النهائي عن القضايا ذات الأولوية بصورة شاملة ومحكمة. من المتوقع أن تنطلق مجموعات العمل حول القضايا الخمسة في مطلع الأسبوع الثاني من يناير، على أن يتم الفراغ منها بصورة متتالية في زمن معقول يكفل المشاركة الواسعة بصورة مرتبة وجيدة، ولا يغفل أهمية عامل الزمن وضرورة إنهاء حالة السيولة الحالية بأعجل ما تيسر.

الفترة التي تلت توقيع الاتفاق الإطاري وحتى بداية مجموعات العمل يتركز المجهود فيها على إدارة أوسع نقاش ممكن مع قوى الثورة لضمان تشكيل أكبر جبهة مدنية من قواها وإحكام التنسيق بين مكوناتها قبل بداية المرحلة الثانية، أيضاً تتصاعد الجهود هذه الأيام للتواصل مع القوى غير الموقعة المتفق عليها بين الأطراف وذلك لإنهاء حالة الانقسام الحالي وتمتين قاعدة الاتفاق النهائي وتوسيعها بقوى حقيقية دون إغراقها بقوى مصنوعة متحكم بها بغرض تغيير اتجاه المشروع الانتقالي وإفراغه من مضمونه الديمقراطي. إضافة لذلك تعمل مجموعات واسعة على تجهيز رؤاها واطروحاتها في القضايا الخمسة للإسهام بها في المرحلة الثانية، وتدور نقاشات مهمة حول هذه القضايا بغية وضع المعالجات الأمثل لها.

استدامة التحول الديمقراطي .. إرث الماضي وشراء المستقبل:

لا يستطيع أحد إخضاع حسابات السياسة والاجتماع لمسطرة قياسية، ففي جميع الأحوال تظل كل السيناريوهات واردة خصوصاً في وضعنا الحالي في السودان الذي تحكمه معادلات عديدة لا تتيح إمكانية التنبؤ بالمستقبل بسهولة ويسر. عليه وإن قدر للعملية السياسية أن تتقدم إلى الأمام حتى تصل إلى بر استعادة المسار الانتقالي، فإن استمرار هذا المسار وترسيخ التحول الديمقراطي رهين بمعالجة قضايا رئيسية بدونها لن ننجح في كسر حلقة اللا استقرار وتقلب الأنظمة المستمر في السودان منذ عقود.

أولى هذه القضايا هي قضية العدالة، فمع ميراث الجرائم الذي استمر لعقود في السودان، لا يمكن طي صفحة الماضي دون معالجة شاملة لقضية العدالة في كل شبر من أرجاء الوطن على اختلاف أزمانها وفق منهج لا يسقط أياً من ركائزها وأهمها كشف الحقائق والمحاسبة وجبر الضرر وتدابير منع تكرار الانتهاكات من جديد والتي تشمل الإصلاح الدستوري والقانوني والمؤسسي في الأجهزة العدلية والأمنية.

ثاني القضايا هي مسألة العلاقات المدنية العسكرية، فقد حكمت المؤسسة العسكرية السودان ل ٥٣ عاماً وخروجها من السياسة كلياً ليس نزهة سهلة المنال، وإن وضع الاتفاق الإطاري الأساس الصحيح لذلك، إلا أن استدامة هذا التحول يجب أن يقوم على معادلة رابحة لطرفيها المدني والعسكري، فنأي المؤسسة العسكرية من السياسة ليس انتصاراً لجهة ولا هزيمة لجهة، بل هو أمر يصب في مصلحة البلاد ككل وفي مصلحة المؤسسة العسكرية نفسها التي أضر بها الاستقطاب السياسي والانخراط فيه. وبخروجها من السياسة يمكن أن توفر الدولة الموارد اللازمة لتحديثها وتطويرها للدفاع عن حدود البلاد والتصدي لمهدداتها الخارجية العديدة. إضافة لذلك تواجه المؤسسة العسكرية معضلة وجودية تتمثل في تعدد القوات وعدم وحدتها والعلاقة التي تكون تنافرية أحياناً بينها، لذا فإن قضية الوصول للجيش الواحد المهني القومي هي قضية وطنية بالأساس، تتطلب خطة متفق عليها تشمل تنفيذ الترتيبات الأمنية بخصوص قوات الحركات المسلحة، ودمج الدعم السريع في الجيش، وذلك ضمن حزمة محددة ومجدولة للإصلاح الأمني والعسكري الشامل، وهو أمر يجب أن ننأى به عن أي شكل من أشكال الاستقطاب السياسي أو أن نقع في فخ تبسيط التعاطي معه، فحل هذه القضية هو مفتاح الحفاظ على وحدة البلاد واستقرارها وتعظيم فرص التحول الديمقراطي فيها.

آخر القضايا المفتاحية هي العلاقات المدنية المدنية، حيث يتسم المشهد السياسي في السودان بانقسام حاد، هذا الانقسام استخدم كل الأسلحة غير المشروعة للوصول للسلطة والحفاظ عليها حتى قسم البلاد إلى نصفين وقاد لارتكاب الإبادة الجماعية بواسطة نظام الإنقاذ، وزج بالجيش كعامل رئيسي في حسم الصراع السياسي في البلاد طوال العقود الماضية. خروج العنف من الحياة السياسية في السودان يتطلب احتكام القوى السياسية والاجتماعية لوسائل غير عنيفة في إدارة صراعها، وهو ما يتطلب تصميم مشروع للانتقال ونظام انتخابي يضمن التمثيل العادل لكل مكونات الحياة السياسية وفق حجمها الطبيعي دون إقصاء لجهة أو تراكم امتيازات غير مستحقة لدى جهة أخرى. جربت قوى عديدة من اليمين ومن اليسار محاولة الاستئثار بالسلطة عن طريق العنف فدمرها هذا العنف ودمر البلاد، والاستفادة من دروس التاريخ وشراء المستقبل يتطلب عدم تكرار هذه التجارب وإدارة الصراع السياسي بوسائل قانونية واليات ديمقراطية.

[ad_2]
المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى