الإسلاميون السودانيون… إلى أيّ مصير يساقون؟
عبد الحميد أحمد
عشية مفاصلة الشيخ الترابي لسلطة الإنقاذ، التقى بعض حوارييه، على غير ميعاد، بأحد النافذين، فنبهه إلى أنّ الإنقاذ بهذا تكون قد فقدت “سندها الفكري والعقائدي” بدا الجنرال، الرجل الثاني، يومئذٍ، في تراتيب قيادة جهاز الأمن، غير مكترث، نفث سحابة كثيفة من سيجارته وقال بصلف وهو يُتبع نظره الدخان المتصاعد: “لن يُعجزنا أن نصمم نظاماً للحكم يشبه نظام حسني مبارك…” كانت الفكرة تعبيراً بليغاً عن توجهات طيفٍ واسعٍ من “الإسلاميين” الذين انحازوا إلى جانب القصر في ساعة المفاصلة (ديسمبر 1999)، لم يعودوا يؤمنون إلا بالسلطة، وأجهزة الضبط والقوة، طريقاً لإحكام السيطرة على الدولة، كما عبّر الجنرال عن تمام كفر تلك الطائفة بمشروع الحركة الإسلامية وفكرها، وجملة تصوراتها ومبادئها في السياسة والحكم، فما لبث النظام أن سقط جميعاً من المراقي التي وضعها الشيخ الترابي نحو الرشد والتقوى والحكمة، فهوى إلى دركات سحيقة من الطغيان والاستبداد وامتهان كرامة الإنسان، فأهلك الحرث والنسل وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي قادته واتباعه.
تشكّلت إحدى حلقات التآمر ضد الشيخ الترابي ومشروع الحركة الإسلامية، وخطتها الاستراتيجية، لأول مرة، من داخل منزل “علي أحمد كرتي” الذي استحال موئلاً ضِراراً وإرصاداً لمن حارب الشيخ، ولم يكن “كرتي” يوماً في عديد القادة المهمين، أو في الصف الأول من قيادة التنظيم، كما لم يك معدوداً في أهل الفكر والرأي والنظر في الحركة، ولم يعهد له من كسب ظاهر، إلا ناشطاً في بعض هياكل العمل العسكري الخاص، ذلك ما أهلَّه لأن يصير لاحقاً منسقاً لقوات الدفاع الشعبي شبه العسكرية، لكن ثروة الرجل وأعماله التجارية التي اهتزت وربت، في ظل نفوذ سلطة الإنقاذ، أمدته بطموح جامح لأن يقرن ذلك الثراء المتنامي بسلطانٍ نافذٍ يكافئ تضخّم مركزه المالي ويؤكد تمام سطوته، ومن ثم انخرط، في أول ظهور له خارج أطر العمل العسكري الخاص، ضمن الفئة التي أيقظت الفتنة بما عرف بـ”مذكرة العشرة” لكن الشيخ الترابي الذي جاء إلى اجتماع تلك الثلّة ليقدم جوابات على أسئلتهم حول مدى استيفاء أمانات المؤتمر الوطني لشروط تمثيل الحركة الإسلامية، سرعان ما خلُص إلى أن أزمتهم الحقيقية تكمن في بحثهم عن أدوار أكبر ضمن تراتيب القيادة، إذن فقد سخر منهم الشيخ هازئا: “أخرجوا إلى العلن، وعبّروا عن أنفسكم من داخل الأجهزة، وخاطبوا الناس جهرة، ثم كيدوني فلا تنظرون” وهي ذات العبارة التي اتخذها من بعد أحد أبرز تلامِذة الشيخ حجةً ظاهرةً للخوض في فتنة المذكرة، ريثما تكشّفت الخيوط عن العلاقة الخاصة التي نشأت، يومئذٍ طارفة، تربط بينه وبين “كرتي” الذي مضى يغدقُ عليه العطايا والنفقات، ويشيد بناء بيته الخرب، ويأخذ برجله وبلحيته يجرّه إلى مزالق الغدر والخيانة ضمن آخرين، ساق بعضهم من خلفه بدواعي الغرر، وأكثرهم وعياً مدفوعاً بحظوظ النفس، والغبن بعد أن تقاصرت به الخطى عن بلوغ مقعد وزير الخارجية، المقعد الذي وصل إليه “كرتي” بعد انكشاف الإنقاذ.
هنالك وضعت اللبنة الأولى في بناء “جماعة المصالح” التي أخذتها شهوة السلطة، ورغبة مخصصاتها من المتاع والجاه والاستكبار، وانغمست في فتنة الولاية على المال العام، مغتنماً أو مستباحاً، فمضت متجانفة عن أصل مشروع الحركة، ونهض يتعهدها بالرعاية أكابر مجرمي الأجهزة الخاصة في الدولة والتنظيم فأحكموا صياغة “مذكرة العشرة” التي وضعت الأساس الأعمق للشقاق وانقسام الحركة وذهاب ريحها، ومن ثم سقوط كامل بناء “المؤتمر الوطني” وانحساره إلى محض حزب للسلطة تديره وتتحكم فيه “مجموعة المصالح” والفساد التي تخلّقت وتحوّرت مراتٍ عديدة ورسّخت أقدامها داخل سلطة الإنقاذ، فيما اسماه الأستاذ المحبوب عبد السلام: “المشروع داخل المشروع” وانضاف إليها وأعانها عليه آخرون من خاصة صف الحركة بالتبريرات التي استوفى تعدادها الشيخ الترابي: “بعضهم تنازعه النفس التقيّة اللوامة ألا يتمادى في الموقع الخطأ، فتغلب عليه النفس الأمارة بالسوء افتتاناً بالجاه والمال والسلطة، يمني نفسه ويراوغ ويلاطف أنَّ تورطه في بعض الشر خير من الخروج من حمى السلطة لِئلَّا يخلفه ذو شر أخبث فيفسد في الأرض لمدى أبلغ، أو أنه يشفق أن يهجر إدارة المشروع فيتزلزل ويسقط كله أو نحو ذلك من حيل التعذر للنفوس المريضة الخاسرة…”
بعد، وفي محاولاتها المستميتة للتشبث بالحياة، واستعادة مكانتها في سلطة حاكمة، أيّ سلطة، قامت “جماعة المصالح” التي انتفضت من تحت كل ذلك الركام يبرز ويتردد في قيادتها اسم “علي أحمد كرتي” باعتباره “الأمين العام المكلف للحركة الإسلامية” ولا يعرف على وجه التحقيق كيف ارتقى “كرتي” ذلك المرتقى الصعب، إذ ظلّ ذلك الموقع حلماً يراود أكثرهم، يقظة ومناماً، منذ أن رأوا الشيخ الترابي، وجهلوا أنه إنّما يزينه بالعلم والمعرفة والخُلق القويم، قامت تلك الجماعة التي قادت الإنقاذ وحزبها إلى السقوط، بتقديم النصح وموالاة التنسيق مع قادة الانقلاب العسكري (25 أكتوبر 2021) ولمّا تزل تجاهد وتعمل لأن تثبّت نفسها حاضنة سياسية لسلطة الانقلاب.
لقد راكمت تلك الجماعة، على مدى ثلاثين عاماً، رصيداً وافراً من الخبرات والمعارف والتجاريب في إدارة الدولة، وسياسة الناس وتنظيم الشأن العام، وتقلّبت في شؤون الإدارة والحكم، وزراء وبرلمانيين ومديري مؤسسات وشركات وبنوك، وإذ ظلت، مدى سنوات حكم الإنقاذ، تردد المقولات الخاوية وترفع الشعارات الزائفة باسم الحريات والانتخابات والشرعية واللا مركزية، وتلبس الحق بالباطل، وتكتم الحق وهي تعلم، وإذ ظلت تتلبس، زوراً ونفاقاً، لبوس الإسلام وتحرُص على ادعاء الانتماء للحركة الإسلامية، فهي اليوم ليست في حاجة إلى ذلك، متى استتب لها الأمر، بعد تمام إخماد مقاومة الشارع، وهو أمر جدير بأن يثير سُؤالات مهمة حول ماهيّة مشروعها السياسي، إذ أنّه لأمر مريج أن تتحالف قوى تدّعي أنها حركيّة، إسلامية مع قوى تجاهر بالعداء للإسلاميين، فتتعاضد جميعاً لإنجاز مشروع سياسي يبدو جلياً أن هدفه النهائي هو ضرب الحركة الإسلامية، إذ لا يخفى السند والدعم الذي يلقاه قادة الانقلاب العسكري من الملوك والحكام الطغاة في الخليج ومصر الكارهون لأيما دور للإسلام في الحياة العامة.
هذه مفارقة يجب أن تتوفر لها جوابات لدى “مجموعة المصالح” التي يقودها “علي كرتي” قبل أن تبذل بين يديها الشعبية التي يوفرها لها الأغرار من عوام الإسلاميين، الذين لا تني تلهب عواطفهم، وتداعب أشواقهم وتطلعاتهم لبعث جديد متوّهم، لا يملكون له تصوراً، لكنهم يلتفّون حولها فتسخّر نفرتهم ضد أيّما مشروع للتحول والبناء الوطني على قواعد الحرية والعدالة والمساواة، ريثما تتمكن في الأرض، ثم تكفُّ عن مداهنتهم فتقلب لهم ظهر المجن، وتفرغ للعمل مع حلفائها في الداخل والخارج على اقصائهم، ضربة لازب، لتكرّس النفعيين القادمين إلى عرض السلطة وجاهها، قبل أن تطلق حملات المطاردة والملاحقات المسعورة بالعنافة لاستئصال شأفة الحركة الإسلامية، ولتواكب توجهات الرعاة الإقليميين الذين لا يَرقُبُونَ في مؤمنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً، إذ أنّ غاية ما يمكن أن تصل إليه هذه المجموعة التي تعمل الأن تحت مظلة الحركة الإسلامية، أن تعقد الصفقات السريّة في الغرفات المظلمة مع المخابرات الأجنبية وتواطئ خطط المحور الإقليمي الكاره للصحوة الإسلامية، غاية ذلك أن تبني نظاماً يشبه نظام “عبد الفتاح السيسي” يكون الإسلاميون، لا ريب، هم أول ضحايا بطشه وفتكه.
المصدر