إنها تستحق كل العناء – سودان تريبيون
[ad_1]
حسين مناوي
كان ذلك عام 1981 عندما اتيتُ إلى قريتى الصغيرة القابعة فى ركن قصى على الطرف الشمالي الغربي لدارفور قادماً من الجامعة لزيارة الأسرة. الأهل يطلقون عليها اسم قلينقوت واحياناً قليبُرا. الاسمان كلاهما يرمزان الى حجم القرية اى بمعنى قرية صغيرة. قريتى الصغيرة لا تبعد عن فوراوية, وفوراوية هى الاخرى قرية ولكنها أكبر بقليل من قلينقوت. وجدت قريتى آخذة فى الإنكماش جزء منها تحول الى أطلال بسبب الهجرة الكبيرة في السبعينيات القرن الماضي وبعض المنازل أصبحت مهجورة بسبب النزوح المستمر إلى مناطق المياه والخدمات البسيطة مثل التعليم والصحة ودور العبادة.
نشأتُ وترعرعتُ في هذه القرية الصغيرة الآمنة التى لا تبدو فيها أي مظهر هندسى في تشييد منازلها عدا الشكل الدائرى الذى تتميز به كل منازل القرية. المنزل عبارة عن دائرة واسعة شُيّد حوشه بالحطب وتناثرت بداخلها مجموعة من القطاطى أو بالأحرى الاكواخ بوظائف مختلفة بنيت من الحجارة والقش وبأسماء مثل, بيه كدا؛… البيت الرئيسى,.. بيه بُر؛.. البيت الصغير,.. شيتى؛… بيت العروس ولكل بيت وظيفة خاصة. يبدو هذه التقسيمات داخل الحوش الواحد هى الفكرة التى نشأت منها الهندسة الداخلية للمنزل الحديث بغرفه المتعددة التسميات, غرفة النوم , غرفة الجلوس والمنافع وغيرها من المسميات. القرى كلها مشهد واحد وكأنها فصول متعددة لرواية واحدة ؛ .الحطب, الحجارة, القش,الطين هى المواد المتوفرة لتشييد القرى فى كل أرجاء المنطقة. هكذا لم اشاهد اختلافاً فى قرى المنطقة ولكننى لاحقاً عندما كبرت لاحظت شيئاً نوعياً لقلينقوت لأنها كانت قرية نموذجية لاندماج أولى للمجتمع. عائلاتُ من ثلاث بطون رئيسية نزحت من قرى عريقة وشاركت في إنشاء نواة جديدة متنوعة اجتماعياً. اجتمعت عائلات من الدقين, وكورا, وبريرا اتينقا لتأسيس القرية وقدمت نموذجاً اولياً للاندماج في تلك المنطقة. التحول الملموس الذي شهدتْه القرية في بواكيرها هو أن أفراداً من عائلات القرية بادرت في إدخال أبنائها فى التعليم الحكومى فى منتصف القرن الماضى بالرغم من أنّ فكرة ٱدخال الأطفال فى المدارس الحكومية كانت تواجه مقاومة شديدة من ثقافة المجتمع المحلي وكان من الصعب إقناع الاهالى بالفكرة ومع ذلك, قليل من العائلات حطمت جدار الثقافة السميك وادخلت أبنائها في التعليم, منها أسرة أركو مناوى واسرة الحاج عبدالله حرير وأسرة الفكى ابراهيم عربى واسرة الفكى يوسف ابراهيم .
الاطفال الذين أتيحت لهم فرص القبول في المدرسة كانوا غرباء وسط أترابهم عندما يعودون إلى القرية وهم يحملون بعض الكتب في حقائب صغيرة صُنعت من القماش. أفراد الأسر وخاصة الصغار الذين لم يحالفهم الحظ فى دخول المدرسة يتدافعون بفضولية ويُقلّبون أبصارهم في صفحات كتب المناهج التى تزينت بصور ملونة من الطبيعة بعضها صورٌ للإنسان وأخرى للحيوان والنبات,والجبال وكثير من مناظر الطبيعة الخلاّبة. بينما هم يتصفّحون يعطونك احساساً بأنك الوحيد يحتل موقعاً مختلفاً داخل الأسرة وهذا الإحساس نابع من أن المدرسة بالنسبة لهم عالم اخر وفعلاً فى تلك الحقبة هي عالم آخر فى ذلك المجتمع الذي تقاليده وثقافته لا ترتبط بثقافة المدينة. أغلب اهالى القرية لا يعرفون شيئاً عن المدينة وعن نمطها المعقد فى سبل كسب الحياة وشبكة علاقاتها الاجتماعية التى تستمد قوتها من المصلحة المتبادلة اكثر من الإلتزام الأخلاقي والاجتماعي. . علمتُ من بطون الكتب ومن قاعات الدراسة وحوارات فكرية أنّ المجتمعات عندما تغادر نطاق البداوة وتلتحق بالحضر تتنازل عن ثقافاتها وتقاليدها طوعاً أو كرهاً وأولى الثقافة اللغة التي تُشكّل حلقة الوصل للمجتمع. كنت انْصتُ الى الافكار المدهشة لأحد المحاضرين فى قسم اللغات فى الكلية وهو يقول ٱنّ اللغة كائن حىّ تحيى وتموت وفي حرب دائم من أجل البقاء. ويقول الآلاف اللغات المستخدمة فى العالم فى حربٍ خفية تطحن بعضها البعض لكى تجد لها مستعمرات جديدة. اللغة فى هذه المنطقة الريفية النائية كانت جداراً سميكاً يعزل المدرسة عن المجتمع ويجعلها جزيرة منعزلة.
كان أهل القرية وخاصة الصغار تتملكهم حب الاستطلاع لمعرفة كل شئ عن المدرسة, اما انا لم اهتم كثيراً بفضوليتهم هذه لانى عندما أعود إلى القرية كل همى ترميم ما فقدته فترة وجودي في المدرسة, نعم المدرسة ذاك السجن الذي كرهته بشدة. السجن وما ادراك ما السجن, كلٌ من بداخله يطوق الى الانطلاقة.
هل سمعتم يوماً صوت ذلك العصفور عندما حطّم قيد الحبس ؟! ” ففرّ عني طائراً وقال لي…حريتي لا تُشترى بالذهب”.
فعلاً كنت اعتقد المدرسة عبارة عن سجن. هذا التفكير الساذج ظل يطاردنى لفترة قصيرة , سنة او سنتين فى المرحلة الابتدائية لأنى كنت مجرد طفل صغير تتحكم عليه العاطفة. فى هذه المرحلة العمرية لا مجال للمنطق ولا حسابات للمستقبل وكنت ناقماً وافكر كمن وقع عليه الظلم ولا افهم كيف وقع علىّ الاختيار من دون الآخرين من أطفال القرية الى درجة يوماً تسللت هارباً من المدرسه باختلاق قصص كاذبة. المدرسة كانت طاردة لكثير من الأطفال الذين عاصرتهم. كل يوم لنا قصص عن فلان شرد وعلّان غاب الى درجة فى اليوم الواحد يتسلل أكثر من طالب الى قراهم دون رجعة. لو لا صمود الوالد لكنت فى عداد الفاقد التربوى. حاولت جاهداً أن أنتصر لرغبتى الرافضة للمدرسة ولكن وجدتُ نفسى ليس فى معركة مع المدرسة وحدها , إنما كنت فى معركة جادة مع الوالد. بالرغم من اللجوء الى الحيلة والكذب لم اتمكن من هزيمة رأى الوالد. جاءتني فكرة أن أقدم حلاً وسطاً ينجيني من عذاب المدرسة, فقلت لوالدى, انا افضل ان اذهب الى (المهاجرا) اىّ المقصود به عند أهالي المنطقة تعليم الخلاوى. … الوالد لم يترك لى مجالاً, فأجاب بلا وبتأكيد قاطع قال “ما عندى ولد يتعلم فى المهاجرا.”
وعندئذ تيقنت انه لا مفر من المواصلة فى المدرسة ومن سابع المستحيلات أن تعارض والدك فى ذلك الزمن. الابوية داخل الأسرة شئ عظيم لأنها توفر أسباب تماسك الاسرة وتجلب هالة من القدسية تمنع أن يتهدّ بنيان الأسرة وهى محمدة كبيرة. فى نفسي تمنيت لو ذهبتْ فى مكانى اختى الكبرى بخيتة التى تربينا فى كنفها وتَحمّلتْ عبئاً ثقيلاً فى تربيتنا وتعلمنا منها الصبر والعزيمة. . كانت هي الساعد الأيمن للوالدة رحمة الله عليها. كانت تساعد أمي في كل شئ, تأتى لنا بالماء من البئر, هى تُعد ما يسد رمقنا من الطحين. هى تقوم بحلب الأبقار وتجهيز الطعام وكل منتجات الحليب.
يوم التحاقي بالمدرسة كان يوماً مشهوداً. كلما راجعتُ شريط الذكريات أجد في ذاكرتي بعض الاحداث اكثر من غيرها تحتفظ بملفات بعينها من بين ذلك السيل المتدفق من الأحداث فى بحر الحياة فى رأس كل دقيقة ,كل ساعة , كل يوم ومن بينها ما حدث لى قبيل وأثناء دخولي المدرسة. كان ذلك يوم الأربعاء ويوم الأربعاء له طعم خاص لأهالي القرية وخاصة الأطفال. فى هذا اليوم أكثر شي يتوقعه الأطفال من أوليائهم, الحلوى والفول السودانى والبلح, تأتى بها الأمهات من السوق ولا تتوفر عندهم فى القرى.
فى ذلك اليوم أُنتزعنى القدر انتزاعاً من البيئة الجميلة الهادئة والودودة التي اعتدتُ عليها فى القرية وأخذنى الوالد إلى فوراوية وفى طريقنا الى حوش المدرسة مررنا بالسوق….. يوم الأربعاء يوم السوق والناس تأتي إلى فوراوية من كل فج عميق, كل يحمل بضاعته, النساء لهن موقع خاص تحت شجرة حراز ضخم يعرضن بما توفرت لهم من السلع مثل الدجاج واكلات مختلفة أغلبها انتاج محلى مثل منتجات الحليب, وأكلات خاصة صُنعت من نواة اللالوب, والنبق خُلطت بعسل صناعى من ثمار شجرة السدر او البطيخ….فى هذا اليوم الفريد كنت انزل السوق ومرات كثيرة ألتقى بالوالد أو الوالدة واتزود منهما بما طاب ولذ من منتجات القرية وبعض النقود تكفى للأربعاء القادم. فى طريقنا مررنا بالسوق وشاهدتُ جمع غفير من الناس فى حركة دائبة وبشكل عشوائي , المكان كله مكتظ بالبشر يتحركون فرادى وجماعات كأنهم امواج متلاطمة. … وفى ساحة مفتوحة وتحت الشجر شاهدت أعداد كبيرة هنا وهناك من صنوف شتى من البهائم. جمال وحمير وغنم وخراف, مقرّنين في حبال. البعض منها دواب أهل القرى والبعض معروضة للسوق. دخلنا حوش المدرسة واحيانا يسمى زريبة المدرسة لأنها من الشوك جُلبت خصيصاً لبناء سياجٍ يحمي المدرسة وهى الاخرى دائرى الشكل. لحظة دخولى حوش المدرسة انتابني قلق وشعور بٱنقباض شديد وحالة من شرود يستبد بالتفكير. الأجواء صاخبة بأصوات الأطفال ,البعض يلعبون والبعض الآخر يتسابقون فى فناء المدرسة وفجأة سمعت صوت المعلم يقول ياااااا واااالد…. فٱذا به أعداد من التلاميذ تتسابق وبكل سرعة الى حيث يقف المعلم, يكاد الكل يصلون الى المكان فى زمن واحد والمعلم يختار فقط واحداً منهم. كان ذلك اليوم وتحت تلك شجرة اللالوب منعطف جديد لحياتى وخُطى كُتبت لى أن امشيها وكان معى ايضاً عدد من اطفال من قرى مختلفة تم قبولهم معى.
فى اليوم الثانى وجدت نفسى مثل الاصم يُنقاد بالإشارة واحياناً بترجمة من الذين سبقونى فى المدرسة من الأطفال. دخلتُ فى حقل جديد من مفردات بالنسبة لى هى مجرد لغة الطير لا افهم شيئاً ولكن اسمع بشكل مكرر وترن فى أذني وكنت شغوف أن اعرف الاشياء لهذه الاسماء, وأكثر الأسماء تتكرر في مسامعك هي عنبر , فصول , فطور , غداء, عشاء , طباشير , سبورة , كراس, أقلام , وجيوش من مفردات تغزوني فى كل لحظة وانا فقط اسمع واسكت كَمَنْ صُم وبُكم .
فى اليوم الأول جلسنا داخل الفصل ودخل علينا المعلم…. قيام…. أول كلمة نسمعه من المعلم ولكن دون استجابة ونحن ننظر إليه نظرة اختلطت فيها كثير من المشاعر؛ الإعجاب, الخوف, الانبهار, القلق. خاطبنا المعلم بلغة الإشارة بيديه وقال للمرة ثانية… قيام… ففهمنا على الطول القصد واستجبنا وبنفس لغة الاشارة اجلسنا ولكن على مدى أربعين دقيقة هو فى وادٍ ونحن فى وادٍ آخر لا نسمع إلا كلمة أ- أسد, أ-أسد أ-أسد تكرار ممل مع عرض صورة الأسد في وجوهنا. لم يخطر ببالي هذا السجن كان منصة لإنطلاقة كبرى إلى عوالم المعرفة ولم يخطر ببالى كان لوالدى فكرة عظيمة تقاصر لها كثير من معاصريه في تلك البلدة المنسية وما جاورها من قرى الصغيرة ويا لها من فكرة فى ذلك الوقت. الوالد رحمة الله عليه كان رجلاً بسيطاً فى حياته ولكنه عظيمٌ فى تفكيره بالرغم من أنّه لم يحظى بأدنى قسط من التعليم بما فيه أبجديات الكتابة والقراءة. وكان انصارى على (السكين) بلغة أهل السودان ومع ذلك على فطرة, يتمتع باستقلالية في رأيه أو كما يقال باللغة الانجليزية congenital maverik أتذكر في سنة من السنوات عاد العم ادريس من غربة طويلة وبدأ يُجند شباباً من الأهل للجهاد في صفوف حزب الامة جناح الصادق المهدي وكان الوالد يرى الأولوية فى حض الناس لتعليم ابنائهم قبل الجهاد, وقد اعترض على الفكرة اعتراضاً شديداً. كان محيط دائرة تفاعل الوالد في قضايا بسيطة لا تخرج عن نطاق حياة القرويين من الزراعة والرعى والتسوق بمنتجاتها واحياناً بتبادل السلع العينية في الأسواق, مواشي مقابل اقمشة, منتجات زراعية مقابل سكر وشاى وبعض أمور اجتماعية تتعلق بالنسيج الاجتماعي وهكذا. كل ذلك يتم فى محيط لا يتجاوز مزبد, امبرو, كرنوى, فوراوية وهى قرى كبيرة فى طور النشوء والتطور إلى المدينة وكانت جزء من مجلس ريفي شمال دارفور. التفكير عند الأهالي في حدود البيئة , حتى الزمن عندهم لا يخرج عن المظاهر الكونية البسيطة. التوقيت بالنسبة للأهالي فى المنطقة حلقة دائرية في شكل مواقيت زمنية ومكانية محددة. الاهالى فى المنطقة عندهم الزمن يقاس بمقاييس تقليدية اقصره بأوقات الصلاة وعند شروق وغروب الشمس وأوسطه بالشهور وأطوله السنين تُعرف بأحداث بعينها مثلاً عام الكسوف أو أعوام الأوبئة والحروب.
بفضل تفكير الوالد, أنا الآن ارتاد افاقاً بسعة الكون, وإذا ما عاد الزمن إلى القهقرى وكشفت له ما في عقلي, لأعتبره من الأساطير. أنا الآن بفضل التعليم أكاد أجد نفسي حاضراً مادياً وذهنياً في محيط دائرته الكون. أتفاعل مع الكون كله. اقرأ لتلسكوب هابل واتابع مسابير ناسا التي تغزو الفضاء حتى حافة الكون حيث المجرات العظمى بوحوشها المعروفة بالثقوب السوداء المرعبة. أتابع بلهفة ما يحبك في دهاليز البيت الأبيض والكرملين وقصر الاليزيه وفى مطابخ 10 داوننغ ستريت. اقرأ معركة الأسواق المالية الكبرى فى داو جونز وبورصة لندن وطوكيو. و بذهول أتامل الى التنافس الحاد فى السوق العالمى وكيف استطاعت امازون أن تسحق المتاجر الكبرى سحقاً وهى لا تملك منتجاً واحداً. وفى دقائق معدودة نطوى الزمن بنقرة محرك قوقل المعجزة لكي أقف على أحداث التاريخ عبر حقب تُقاس بآلاف السنين.
قيمة العلم كانت راسخة في ذهن والدي بينما أنا في غيبوبة, أنظر إلى المدرسة وكأنها حزمة من قوانين تُكلّبنى, تُرهقنى, اعيش فى اسى وحزن ويزيدنى الأسى نظام التغذية الفقيرة يفتقر إلى عناصر ألفيتها فى المائدة البسيطة فى القرية مثل الحليب ومنتجاته التي كانت جزءاً أساسياً من غذائنا فى القرية, ونعود من المدرسة الى القرية هزيل غائرة العينين بلا بريق. الريف بالنسبة لى ملجأ للراحة والانطلاقة. أنت تنتقل إلى الريف وتجد الحياة فيه تسير بإيقاع خاص , وانت تستجيب لذلك التناغم وتمرح بالمألوف, أصوات الحيوانات الأليفة والطيور تُحدث صدى وتنسجم مع صوت الطبيعة وتهدهد روح الإنسان. هي قيثارة تُسعد الروح المعنّى على قول الشاعر جماع, اصوات تحمل دلالات خاصة , كل صوت له معنى فى وجدانك وفى أغلبها هي رسائل الحرية والطلاقة, تسمع على مدار اليوم ثغاء الماعز, رغاء الإبل , صياح الديكة و نقنقة الدجاج ونهيق الحمير ونباح الكلاب ومأمأة الخراف. فى المدرسة تتبدل كل هذه الحرية والطلاقة بحزمة من قوانين لا ترحم الأطفال وتظل حركة الأطفال مرتبطة بنظام دقيق على ايقاع الجرس. تنام بالجرس , تصحى بالجرس وتاكل بالجرس. صوت الجرس يرن فى طبل أذنيك ويتحكم على حركاتك وسكناتك.
عندما تعود الى القرية تتحرر من أغلال ثقيلة وعلى رأسها النظام الصارم الذي تفرضه المدرسة في تعليم اللغة العربية. فى المدرسة تتلقى جرعات اللغة العربية كجرعات الدواء عبر جداول زمنية يتحتم على الطفل الٱنصات إلى المعلم ويحاول جاهداً التواصل معه بمحاكاة طريقة نطقه للكلمات وتعتمد كلياً على اللغة البراغماتية فى توصيل المعنى كما يسمونها أهل اللغة الانجليزية pragmatic language, ومع ذلك ثمة معركة ضروس تنشب. معركة المخارج, كلمات تخرج من مخارج صوتية لا تنسجم مع مخارج اللغة العربية فتحدث معركة حامية الوطيس بين مخارج اللغتين فتتولد كلمات هجينة من اللغتين فتقول أمد بدل أحمد, ارم بدل ابراهيم, هروف بدل خروف, هيوان بدل حيوان, ايب بدل عيب. وبعد نهاية اليوم الدراسى انت تظل مراقب تحت طائلة عقوبات صارمة إن تحدثت باللغة الأم , لذا التلاميذ يعانون من التواصل بينهم باللغة العربية بسبب انعدام الذخيرة اللغوية الكافية التى تخدم أغراض الحياة اليومية.
فوراوية إحدى القرى التى بدأت تبتلع القرى المجاورة, وهي كثيرة بأسماء ذات إيقاع خاص لاهل المنطقة. كان أستاذنا الجليل محمد يعقوب الحولانى رحمة الله عليه وهو من أهالي الفاشر معجب بأسماء القرى هناك ودائماً يمزح معنا و ينطق كما ينطق أهلها, بسيمفونية رائعة يستحق ملكية فكرية في ذلك الإيقاع. يقول؛ قلينقوت , كادلولهوك, سركينكوك.
لكل عصر قوانينه فى الحركة السكانية وعلاقة قرية قلينقوت بفوراوية لم تخرج من قانون مركز الجذب ومركز الطرد فيبدو تحولت فوراوية إلى مركز جذب وخلقت حركة سكانية نحوها. علمت من الوالد أنه ينوى الرحيل الى فوراوية ليستقر هناك بقية حياته حتى يتمكن من مداومة صلاة الجمعة… فوراوية نفسها قرية ناشئة ولكن من حظها هى التى احتضنت المدرسة الوحيدة فى المنطقة وكانت سبباً لتطور القرية , فقامت السوق , ثم أنشئ مركز صحي ومسجد وبدأت تنتفخ قليلاً قليلاً وعلى النقيض قرى كثيرة بدأت تنكمش و تتآكل و فوراوية تنفتح وتكبر على حساب القرى الأخرى.
بعد قضاء أيام هناك مع الاسرة والاستمتاع بدفء حياة الريف وزيارة الأمكنة التي قضيت فيها ايام الصبا, عدت الى فوراوية لكى اجد وسيلة نقل الى الفاشر ثم الخرطوم ومنها الى الجامعة فى جوبا. بقيت فى فوراوية زهاء أسبوع ننتظر بلهفة ناقلة تقل بى الى الفاشر. الفاصل الزمني بين عام 1981 والعام الذي التحقتُ بالمدرسة يقدر باكثر من اربعة عشر عاماً, الحال لم يتبدل كثيراً لا زال المعاناة هي المعاناة ولكن العزاء فى قناعتي أهمية التعليم أصبحت راسخة رسوخ الجبال ولم أعد أكره التعليم. بل أنا الذي يتماهى مع الفكرة التي من اجلها ضحى الوالد وقته وماله من أجل تعليم ذريته. …كان للوالد عزيمة واصرار فى فكرة التعليم, فلم يتردد في إدخال بقية أبنائه وبناته من لهم فرص القبول فى المدارس.. قد التحقوا بالمدارس من بعدى واحداً تلو الآخر. لحقنى خميس ومن بعده لحقنا خاطر وثم الاخوات نظيفة وعائشة ومن بعدهن منى. بعد مسافة زمنية قصيرة جاء دور محمد ومن بعده نورالدين ثم عباس أصغر أبناء اركو مناوى.
انتظرت اسبوعاً كاملاً وأخذ القلق يستبد بى لأن رحلتى من فوراوية الى جوبا مرتبطة بمواعيد زمنية ذات الصلة ببداية كورسات جديدة فى جامعة تطبق فيها نظام السمستر بصرامة وجزء مهم من الحصيلة الاكاديمية تحدده عدد assignments اى بحوث مفروضة على الطالب ومقدار حضور الطالب للكورسات. الاخوان الاستاذ عامر بخيت والأستاذ بشير نمير رحمة الله عليه كانا يخففان قلقى ببعض تطمينات. “انت عارف يا استاذ حسين سر التجار احمد عرجة وعبدالكريم جده كلاهما ذهبا الى الفاشر قبل أيام. الناس ديل ما بتأخروا لو تأخروا أكثر شي اسبوع واحد”
هذه المعلومات تجعلنا نتوقع وصول ناقلة تحت أي لحظة. فى النهار ظللت ارخي السمع علّ وعسى اسمع صوت لورى قادم وأثناء الليل أطلق البصر في الأفق على أمل أن يقع بصري على بهرة انوار سيارة قادمة.
فعلاً لم تدم سويعات حتى سمعنا صوت لورى فٱنطلقنا إلى السوق أحمل حقيبتي. لم أضع في الحسبان أي وجهة غير الفاشر. وجدنا سائق العربة هو رجل عند أهل المنطقة علم فى رأسه النار. هو الاخ عبدالكريم جالى, قبل أن اسأله عن وجهته وجدته يتحدث مع شخص آخر ويقول ٱنّه فى طريقه الى العطرون. عبارة تمنيت لو لم اسمعها. قلت فى نفسى العطروووون!!!! كلام وقع في نفسي كالصاعقة وتلاشت الفرحة التى غمرتنى وطارت عنى فى ومضة من الزمن وبدأ الاحباط يدب فى نفسي شيئاً فشيئاً وشعرتُ بشئٍ قارصٍ كشتاء سبيريا يغزونى كما يغزو الليل النهار. فكرت ملياً ماذا افعل. “كم يستغرق معك الزمن الاخ عبدالكريم من هنا الى العطرون ثم الى الفاشر” سألته هذا السؤال وانا تفكيري مشتت بين أنْ انتظر سيارة اخرى او اغامر الى العطرون. بدون اى مقدمات وجدتُ نفسى امام معادلة رياضية بسيطة وبسرعة البداهة فى اتجاه معاكس لجوبا والمعادلة كانت واضحة امامى, سوف اقطع مسافات زمنية ومكانية تقاس بايام وألاف كليومترات ومع ذلك لا بد أنْ إتخذ القرار المناسب. “فقط ما اكثر من اربعة ايام” قالها عبدالكريم بثقة مفرطة. فقلتُ “إذاً هيا نذهب معك” ٱنطلقت بنا ناقلة (قندران) من فوراوية متجهة الى بئر العطرون على مشارف حدودنا مع ليبيا. المعالم التى اعرفها فى هذه الرحلة تنتهى عند وادى هور, كنت متأكد رحلتنا تمر بسهول وادى مونى مونى- ووادي ارمارا ونشاهد تلالها, أروا -وشدى -وشدى تلى- وهانو- ومارقرا ثم ننزل فى سهل وادي هور المنبسط. صورة الرحلة كانت بالنسبة لى واضحة حتى آخر هذه المعالم فى تخوم وادى هور, أما بقية الرحلة لا اعرف معالمها ولا ادرى وعورتها. وقد سارت بنا الناقلة محاذية وادى فوراوية, المنظر كان خلاّب, هذا الجزء من الوادي اعرفه جيداّ بأدغاله الكثيفة, البعض منها تسمى بشجرة جقى وهى شجيرات تنثني وتتمايل مع الريح كلما ارتفعت وأحياناً ترقص رقصة عرائس كأنّ القدر ٱختارها فى هذا الجزء من الوادي كى تُطرب عالم الشجر والنبات وكيف لا فهي الشجرة الوحيدة لا تشبه الأشجار الشوكية فى هذا المناخ الشبه الصحراوي. شجرة جقى رائعة ودائمة الخضرة, وربما لهذا السبب ألهمت كثيراً فى الشعر الغنائي واقترنت بشعر المرأة من شدة تموّجها, بها تغزّل الشباب فى وصف المحبوبة بقولهم( شرو جقيدا) اى شعرها مثل ال جقى. المنظر كان جميلاً والهدوء يعم المنطقة ويزيد الطمأنينة مع شقشقة العصافيرلو لا أزيز ماكينة الناقلة الذي بث رعباً في قطعان الماعز المسترخية فى ظلال الأشجار الوارفة. لم يمض وقت حتى توقفنا قليلاً عند قرية سبلي قربو على مسافة كيلومترات قليلة من فوراوية والتى عندها كان أهل فوراوية على موعد لحضور مناسبة زفاف لاحد ابناء فوراوية.
قبل هذه الزيارة المفاجأة لم يسبق لى أن ذهبتُ الى بئر العطرون والرحلة نفسها لم تكن من جدول أعمالي ولكن سبل كسب المعرفة في هذه البيئة تُعتبر من الدروب الوعرة قياساً بالبيئات السودانية الاخرى… المعاناة هي السمة السائدة فى البيئة التي تربيت فيها وكل من ارتقى في سلم العلم هنا قاسى جفوة الظروف تكللت جهوده بالنجاح, وقيل الضربات التي لا تقتلك تجعلك أقوى ولحكمة ما اراد الله أن تسير هذه الحياة على عجلة التناقضات ….فى البدء كانت التمرة علقماً, وجرعة الدواء التي لم تستسيغها تُنجيك من داء قاتل….. أليس محقاً الشاعر المجذوب حين قال أيكون الخير في الشر ٱنطوى.. والقوى خرجت من ذرة هى حبلى بالعدم!! … معظم التلاميذ الذين تكبدوا مشاق المعرفة احياناً يحملون امتعتهم على ظهورهم ويسيرون يوماً او يومين للوصول الى كرنوى او امبرو حيث المدارس ولكنهم يتفاجأون بأن المدارس مغلقة, ثم يعودون إلى قراهم و يعاودون الكَرّة بعد أيام. كل من سلك طريق العلم فى هذه المنطقة ركب هذه المعاناة وذاق مرارتها قبل أن يقطف ثمار النجاح. غادرنا قرية سبلى قربو متجهين شمالاً نحو العطرون نسابق الريح, لا نسمع غير أزيز ماكينة الناقلة ولا نرى غير سلسلة من الكثبان الرملية التي تشكلت طبقات بعضها فوق الأخرى وفى أرض قفر ترى قطعان الغزلان تمشى هوينا ومن حولها تتحرك كتل من النعام كأنها كومة من الامتعة تتدحرج على سطح شريط نقل الحقائب فى المطارات,وفي الأفق البعيد لا نشاهد غير أنحاء غريب للسماء ونحن ننظر إليها من علٍ كأنّ للسماء اوتاداً فى الأرض….. رحلتى من فوراوية إلى العطرون مرورا بالفاشر ثم الخرطوم ومنها إلى جوبا والتى كلّفتنى أسابيع وآلاف كيلومترات كانت رحلة طويلة وتحفها شئٌ من المخاطرة ولكنها بالنسبة لي كانت اسهل واقصر من رحلة الساعة التي كنت امشيها من قلينقود إلى فوراوية فى مستهل حياتى التعليمية لأنّ ثمة شئ خفى يُحَفزّني ويجعلنى اُطيق هذه الرحلة, وهكذا ربما العشرات من قبلى ارتادوا رحلاتهم ولعلّ صعوبة الرحلات ومشقتها ليست فى المسافات وإلّا لما غامر ماجلان وابن بطوطة وفاسكو ديجاما.
المصدر