السياسة السودانية

إذا كنت لن أقاتل وسط المدنين تجنبا للخسائر، فلماذا أحشد قواتي داخل العاصمة؟ – النيلين

أكبر نقد يُوجه للجيش هو عدم حمايته للمدنيين الذين تعرضوا للنهب والاغتصاب والقتل ومختلف أنواع الانتهاكات. وذلك لأنه تبنى استراتيجية القوة مقابل الأرض؛ تخلى بموجبها مؤقتا عن الأرض وعمل على الاحتفاظ بقوته وضرب قوة المليشيا واستنزافها.

لقد نجحت هذه الاستراتيجية في ضرب قوة المليشيا بأقل خسائر من الجيش؛ ولكن ينتقدها البعض بأن الجيش احتمى بمعسكراته وترك المواطن لمصيره.

لمناقشة هذا الاتهام دعونا نتساءل ماذا كانت خيارات الجيش من أجل حماية المدنيين والانتصار في الحرب في نفس الوقت. كان على الجيش الانتشار والدخول في مواجهات برية مفتوحة مع المليشيا وهذه هي الطريقة الوحيدة لطردها من الأحياء والمرافق المدنية. ولكن السؤال هو كيف يُمكن عمل ذلك دون إيقاع خسائر كبيرة في المدنيين؟ الإجابة ذلك غير ممكن.

معركة برية واسعة في بداية الحرب بغض النظر عن إمكانيات الجيش وإحتمالية خسارته للمعركة، كانت ستكون باهظة التكلفة بالنسبة لأرواح وممتلكات المدنيين بأكثر مما فعل الجنجويد بأضعاف مضاعفة. أن تعمل على إخراج المليشيات من الأحياء السكنية التي انتشروا فيها يعني أن تخوض معهم حربا داخل هذه الأحياء وتعرض المدنيين للخطر بتحويل مناطقهم إلى ساحة معركة. وفي حرب كهذه لن يكون بمقدور الجيش استخدام الأسلحة الثقيلة بطبيعة الحال، ما يعني تعادل الكفة بينه وبين المليشيا لتصبح الحرب سجال بينهما.

السؤال هو كم ستستغرق حربا برية مفتوحة بهذه الشكل؟ أنا أتوقع انها ستستغرق سنوات. لأنها ستكون حرب سجال بين طرفين متكافئين اذا تجاهلنا القوة العددية للمليشيا مقابل الجيش في بداية الحرب والفرق في التسليح بين عربات الدعم السريع القتالية ومشاة الجيش وقلنا بأن هناك تكافؤ. تكافؤ يعني أن الحرب ستطول، وسيتم طحن المدنيين فيها طحناً وسيخرجون في النهاية من بيوتهم التي ستتحول إلى ساحة قتال (من نجا منهم) وبعضهم سيُحبس في مناطق سيطرة المليشيا. باختصار ستتحول العاصمة إلى جحيم وستغرق في حرب طويلة، وسيكون الاستنزاف متبادل بين الطرفين، بدلا من أن يكون من طرف واحد كما هو الآن.

لذلك، يبدو لي أن استراتيجية الجيش في استنزاف العدو لم تكن مجرد خطة طارئة فرضتها الظروف، صدمة الحرب الأولى وعدم الاستعداد لها وموازين القوى؛ بل هي استراتيجية واعية تماماً عن دراية ودربة. يبدو لي أن الحرب البرية المفتوحة في الخرطوم تحديداً لم تكن أبداً ضمن الاستراتيجيات المطروحة؛ وربما هذا ما يفسر قلة عدد قوات الجيش داخل العاصمة عند بدء الحرب على الرغم من حشد الدعم السريع لقواته على الملأ؛ فماذا سأفعل بآلاف القوات داخل العاصمة وسط الأحياء السكنية والمرافق المدنية إذا كنت لن أقاتل وسط المدنيين منذ البداية؟ واذا كنت أدرك أن القتال المفتوح في الأحياء والشوارع ليس هو الاستراتيجية الصحيحة؟ بكل تأكيد سأحتفظ بقواتي في معسكراتها خارج الخرطوم وفي الولايات البعيدة. وسأستدعيها عندما يكون الظرف مهيأ لخوض المعركة البرية.

صحيح طبعاً قد تكون هناك اخفاقات ضمن الاستراتيجية هنا وهناك، ولكن الاستراتيجية نفسها يبدو أنها صحيحة بل ومثالية. خصوصا إذا كان المعيار هو الخسائر المتوقعة في الحالتين، ففي حالة تحويل الخرطوم إلى ساحة معركة برية واسعة عند بداية الحرب يبدو أن الخسائر أيضا ستكون كبيرة وأكبر من الخسائر الحالية خصوصا وسط المدنيين وكذلك في البنيات التحتية مع عدم ضمان قصر أمد المعركة وعدم ضمان النصر أساساً في ظل تكافؤ الكفة وفقدان ميزة الأسلحة الثقيلة كالدبابات والمدفعية والطائرات.

حليم عباس
حليم عباس


مصدر الخبر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى