أين غزلاننا والأرانب؟ – النيلين
أنور محمدين
استغل الإنجليز خلال حكمهم الطويل للسودان خام الذهب عبر منجم أبوصارى بالمحس.
بعد رحيلهم جاء للمنطقة فريق سوداني يرتدي ثوب البحث فحملوا ما بوسعهم في صناديق محكمة.
خلال إنشاء طريق دنقلا .. وادي حلفا عثر العمال على قطع ذهبية خلال تكسيرهم الصخور ما لفت التنبه للثروات الكامنة في منطقة ذاخرة بشتى المعادن بما فيها اليورانيوم’ فضلا عن المقتنيات الأثرية التي نهب كثير منها.
هذا الاكتشاف أسال لعاب الطامعين الذين وفدوا للمنطقة الأعمى يحمل المقعد فها هي صحراء العتمور العذراء باتت حاضنة لآلاف المغامرين الباحثين عن ضربة حظ ترفعهم عنان سموات الثروة والشهرة .. تلك الصحراء الممتدة سهولها حتى أبوحمد’ المتفاوتة مرتفعاتها وأشهرها جبل الكرور الشامخ والجبل الأبيض العجيب شرق دلقو.
هذا التوافد غير خريطة المنطقة السكانية الذي أدخل سلوكيات غير مألوفة في بيئة مستكنة عرفت بقيم متوارثة سامية ما زرع التذمر في الأهالي منها السطو المنزلي’ علاوة على محاولات الإحلال من بينها تطلع أحد الوافدين لتسنم مقعد شيخ قرية بل جرؤ آخر على عرض شراء أرض ساقية نيلية غير مدرك قيمة الأرض الرمزية والمعنوية والانتمائية التي لا تقاس بكنوز الأرض.
أما ما حاق من تدمير للبيئة وتلويث للتربة والماء والهواء فهذا ملف خطير على مر الأجيال .. ينهض دليلا أن تأثير الزئبق والسينايد يطول الأجنة في الأرحام ويؤدي إلى التشوه الخلقي كما ثبت حديثا.
هناك بعد مهم غير لافت لكثيرين ففي السنوات المطيرة كان آباؤنا يأتون بالقش من الأودية القريبة التي ترتع فيها إبل الرعاة في مواسم محسوبة فيما تحتطب من الأماكن القريبة أمهاتنا شجيرات السلم الجافة التي عند احتراقها في شاي الظهيرة كان يشتم نكهتها الزكية العابرون أمام البيوت.
أما الحرجل العشب الطبي المفيد فقد بات في خبر كان بفعل هجمة المغيرين المعتدين مثلما كان من أمر نبات الحنظل الذي يستخلص منه القطران لمداواة جراح الجمال وطرد الأفاعي.
وكنا في أطراف قرانا الوادعة نرى الغزلان الجميلة ترد النيل ثم تعود لمكامنها ومن فرط جاذبيتها نتعقبها فتفر نافرة متقافزة وهي تتلفت إلينا من على الروابي ربما هازئة وكذا كانت تفعل جماعات الأرانب البرية التي أشار إليها شاعرنا الفذ د. جيلي عبد الرحمن في قصيدته الباذخة أحن إليك يا عبري:
أكلنا لحم تمساح وذقنا أرنب البر
وعيشا قد عرفناه حثالات من البر
نجهز ذبحة الضان لعيد الفطر والنحر
فنشبع فيهما لحما ونعطي البعض للغير
كما كانت تجوس فيها الذئاب والضباع والثعالب بجانب أسراب الصقور والغربان.
كل هذه البيئة العامرة حتى بثعابينها وعقاربها التي صارت اليوم سلعة دولارية يبيدها مقتحمو المنطقة حتى من غير إخوتنا السودانيين بعد أن كانت الحياة فيها تمضي في اتساق بطيء متناغم.
إلام يستمر هذا الطوفان المدمر الذي إن سكتنا عليه أكثر سيترتب عليه هجر ما تبقى من السكان بغول السرطان وتغول الباطشين بهدأة النيل وانسياب الحياة الرغيدة المتوارثة منذ قرون من الحضارات الرفيعة مديدة?!
إنها ربوعنا الأثيرة مراتع صبانا وصباباتنا .. كيف نعيدها سيرتها الأولى?!
صحيفة التحرير
مصدر الخبر